Quantcast
Channel: قضايـا (جريدة الشرق الاوسط)
Viewing all 44 articles
Browse latest View live

الفلوجة.. 2500 سنة من الحروب والنزاعات الفلوجة.. 2500 سنة من الحروب والنزاعات

$
0
0
شهد العراق خلال الفترة الماضية أضخم حشد عسكري لقواته منذ نهاية حكم صدام حسين. وتألف هذا الحشد العسكري من نحو 50.000 عسكري مدعومين بآلاف من قوات الشرطة شبه العسكرية، لكن الهدف هذه المرة ما كان صد عدوان خارجي على الأراضي العراقية، بل مهاجمة مدينة الفلوجة الواقعة على بعد نحو 58 كم (40 ميلا) إلى الغرب من بغداد، في الجزء الشرقي من محافظة الأنبار. رئيس الوزراء نوري المالكي ادعى أن المدينة التي صدت القوات الحكومية تخضع الآن لسيطرة تنظيم «القاعدة». وقد حذر مساعدوه من أن الجيش العراقي الجديد تلقى أوامر بتحرير المدينة باستراتيجية «اضرب واقتل»، إذ نقل عن موفق الربيعي، مستشار المالكي، قوله «لن نأخذ أسرى»، في دلالة واضحة على النيات خلف هذه الاستراتيجية. وهكذا، عن طريق التلويح بشبح «القاعدة» تمكن المالكي من إقناع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بتسريع عملية تسليم الأسلحة، بما في ذلك الطائرات من دون طيار التي تحمل وتستخدم صواريخ «هيلفاير»، للقوات الحكومية العراقية. غير أن صورة «الأبيض والأسود» التي رسمها رئيس الوزراء العراقي لا تنقل الصورة كاملة. بادئ ذي بدء، على الرغم من تورط المنظمات الإسلامية المتشددة في الأزمة الحالية التي تكتنف الفلوجة، ربما يكون من الخطأ وصف جميع المتجمعين ضد المالكي بأنهم أعضاء في «القاعدة». ولا شك أن عناصر «القاعدة» التي تعمل تحت راية «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، حاضرة في الفلوجة وموجودة بنسبة أقل في مدينة الرمادي، عاصمة الأنبار، لكن التمرد الذي تمكن من إخراج الفلوجة من قبضة المالكي اجتذب أيضا القبائل والعشائر السنية العربية المسلحة التي كانت ساعدت في طرد «القاعدة» من المدينة قبل عقد تقريبا. بل لقد جاءت المجموعات المتشددة المسلحة هذه المرة إلى الفلوجة من سوريا، حيث عانت فيها أخيرا من سلسلة من الهزائم على يد مجموعات إسلامية منافسة. وفي بعض الحالات كان المالكي نفسه من دفعهم إلى فرض سيطرة مباشرة عبر شن عمليات على ما يسمى تقاطع «الكيلومتر 90»، حيث تلتقي حدود العراق مع الأردن وسوريا، والذي يعد المعبر الرئيس للمتشددين الإسلاميين الذين يحاربون ضد الأسد في سوريا. قبل ما يقرب من عقد من الحرب، شكل الموقف الاستقطابي الديني المتشدد، بالإضافة إلى حادثة مؤسفة وقعت هناك، مكونات للمزيج القاتل الذي حوّل الفلوجة إلى «عاصمة» للتمرد في العراق و«ساحة» للمعركة الرئيسة الوحيدة التي كان قد خاضها التحالف الذي قادته الولايات المتحدة للسيطرة على البلاد. والحقيقة أن ربع عدد قتلى الجنود الأميركيين في العراق، البالغ 4.000 جندي سقطوا في المعارك، إنما سقطوا في الفلوجة والمدن المجاورة لها. ولدى إلقاء نظرة على تاريخ الفلوجة نجد أن المدينة كانت مسرحا للعديد من المعارك خلال 2500 سنة. إذ فتح كورش الكبير مؤسس الإمبراطورية في إيران، خلال القرن السادس قبل الميلاد، الطريق إلى البحر الأبيض المتوسط أمام الأخمينيين الذي تمكنوا من اجتياح سوريا وصحراء سيناء ومهاجمة مصر. وأطلق عليها مسمى «هوكست ديزه» (أي «الحصن البعيد»)، وحملته وعرفت به إلى أن استولى عليها الرومان في القرن الثالث بعد الميلاد، وبعده غير اسمها إلى مسيتش (أي «المدينة الوسطى») لأنها كانت تتوسط بساتين النخيل، ويحيط بها نهر الفرات من أغلب الجهات، مما يجعلها تبدو وكأنها شبه الجزيرة. وخلال فتوحات القائد الروماني الشهير مرقس أنطونيوس («مارك أنتوني» أو «أنطونيو» الذي أحب ملكة مصر كليوباترا)، استولى لصوص الصحراء على أمتعة القوات الرومانية عند وصولها إلى الفلوجة، مما أجبرها على التقهقر على عجل بعيدا عن البلدة. وفي أبريل (نيسان) من عام 224م وقعت الفلوجة في أيدي محتلين آخرين بعد معركة مريرة أقدم خلالها الفرس بقيادة الملك سابور (شابور) الأول الساساني على ذبح الإمبراطور الروماني غورديانوس الثالث. ويومذاك حفر الملك الفارسي نبأ انتصاره على الرومان بثلاث لغات في سفح جبل بالقرب من مدينة شيراز عاصمة فارس. كما غيّر سابور الأول اسم البلدة إلى بيروز - شابور (أو سابور المنتصر). وبمرور الوقت، تعززت قوة البلدة ومنعتها بحيث أصحبت الحامية الرئيسة للفرس في منطقة الفرات الأوسط، وأرست تقليدا عسكريا للدفاع عن النفس ظل قائما منذ ذلك الحين. وهكذا، على امتداد ستة قرون، ظلت بيروز - شابور (أو سابور المنتصر) «الجائزة» التي كان لا بد من الظفر بها خلال الحروب الفارسية - الرومانية. وبالفعل تمكن الإمبراطور يوليانوس (جوليان) إعادة السيطرة الرومانية على البلدة، غير أنه قتل في معركة أخرى ضد الفرس سمحت لهم باستعادة وجودهم في جميع بلاد الشام. وفي ما بعد شيد الملك الساساني بهرام الخامس قصرا على مقربة من البلدة، وألحق به حديقة تضم العديد من حيوانات الصحراء والزهور الغريبة الموجودة في الحدائق الفارسية. وفي القصيدة الملحمية المسماة بـ«القباب السبع»، التي ألفها النظامي الكنجوي، تمثل البلدة القصر الذي تسكنه أميرة ترتدي ملابس خضراء. ومع أن البلدة سقطت مرة أخرى في يد الرومان بعد ذلك بقليل، فإن الفرس استعادوها مجددا عن طريق كسرى أبرويز (خسرو برويز) الملك الساساني، الذي كان منهمكا بالمرح والعبث، وكان معاصرا للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وفي البلدة شيد كسرى أبرويز معبدا مجوسيا ظلت بقاياه من بين أهم المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين على مدى عدة عقود. الفتح العربي الإسلامي لبلاد ما بين النهرين في القرن السابع الميلادي شكل بداية مرحلة تراجع للفلوجة لم تتعاف منها في الواقع إلا في أربعينات القرن الماضي. إذ اجتاح الفاتحون البلدة وأحرقوا مبانيها ومتاجرها، كما دمروا الحدائق وأتلفوا بساتينها، مع العلم بأن مدينة الأنبار القديمة، عاصمة العباسيين الأولى قبل تشييد أبي جعفر المنصور عاصمته بغداد، قامت في مكان قريب جدا منها إلى الغرب، وآثارها اليوم ماثلة بينها وبين بلدة الصقلاوية. وبمرور الوقت بدأ اسم الفلوجة، الذي يعني الأرض الصالحة أو المصلّحة للزرع، في الظهور. ومن ثم، بفضل موقعها، كان لا بد من عودة الفلوجة إلى سابق عهدها كبلدة استراتيجية لأنها كانت المكان الرئيس الذي تتوقف عنده القوافل المتجهة من مناطق الصحراء العربية في طريقها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ولأنها كانت غنية بالموارد المائية، غدت أرضها موقعا مثاليا لممارسة النشاط الزراعي. وفي العقود الأخيرة، جذبت الفلوجة انتباه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لعدد من الأسباب: الأول، لأنها كانت تقع في ما يعرف باسم «المثلث السني» الذي هو عبارة على رقعة من أرض، في غرب العراق وشمال غربه، قدمت الجزء الأكبر من النخبة العسكرية العراقية منذ حكم العثمانيين. وإزاء اقتناعه بأنه لن يكسب مطلقا تأييد الشيعة العراقيين، بذل صدام حسين جهدا دؤوبا لإرضاء «المثلث السني» والإغداق عليه من أجل الحصول على دعمه. وحقا مثلت الفلوجة «الجناح الغربي» من منظومة القواعد العسكرية و«الحاميات المدنية» التي جرى تطويرها في عهد صدام، وكانت مدينة بعقوبة، عاصمة محافظة ديالى وتقع شمال شرقي بغداد، تمثل «الجناح الشرقي» من تلك المنظومة. الفلوجة - كما سبقت الإشارة - تقع على بعد 58 كيلومترا فقط إلى الغرب من بغداد في منتصف المسافة تقريبا بينها وبين الرمادي، ودائما ما كانت تراود صدام حسين الشكوك إزاء احتمال تنفيذ انقلاب عسكري ضده داخل بغداد، لذلك كان يحتفظ بقوات في كل من الفلوجة وبعقوبة، الجناحين الغربي والشرقي الاستراتيجيين، لمواجهة أي انتفاضة تندلع في العاصمة. كذلك أحب ابنا صدام، عدي وقصي، الفلوجة بسبب جمالها الطبيعي وقربها من كل من نهر الفرات والصحراء وبحيرة الحبانية إلى غربها. وأقدما على تشييد القصور فيها وفي محيطها، بما في ذلك بحيرة اصطناعية تتوسطها جزيرة اصطناعية، وبنوا ناديا للقوارب كانت تنظم فيه سباقات للقوارب وممارسة الرياضات المائية. وعام 1995، شيد صدام حسين، بنفسه، واحدا من قصوره الـ22 في المنطقة. ولقد سقطت القصور التي كانت يمتلكها الرئيس الأسبق وعائلته في أيدي الجيش الأميركي، وتحول القصر الذي كان يمتلكه قصي إلى مقر لوحدة العمليات النفسية 361 الأميركية، التي كانت مهمتها كسب تأييد أهل تلك المدينة المهمة. وكان قصر قصي يقع في قلب معسكر أورهارم (Camp Orharm)، الذي كان أحد مرافق القوات الأميركية المهمة في منطقة الفرات الأوسط. وبسبب دور الفلوجة كحامية عسكرية بارزة وحيوية، صارت موطنا لعدد كبير من عائلات العسكريين. ووفق بعض التقديرات، كان أفراد الجيش العراقي يمثلون ما لا يقل عن ربع سكان المدينة البالغ عددهم نحو 400 ألف نسمة، بما في ذلك قوات الحرس الجمهوري والقوات شبه العسكرية التي أسسها صدام حسين وأبناؤه. كما اتخذ العدد الأكبر من عائلات الحرس الوطني، الذي شكله أعضاء حزب البعث في ستينات القرن الماضي، من الفلوجة موطنا لهم. لقد أرسى تاريخ الفلوجة تقليدا عسكريا للدفاع عن النفس في المدينة، وقد شاركتها مدن عراقية قليلة ذلك التقليد. غير أنه ينبغي أن تُضاف إلى ذلك «التقليد» شخصية الفلوجة الدينية، إذ تعد المدينة أكبر نقطة تجمع للجماعات الأصولية السنية منذ القرن التاسع عشر. كذلك كانت الفلوجة هدفا مهما خلال القرن الثامن عشر من قبل دعاة نجد بوسط شبه الجزيرة العربية الذي كانوا يكرهون الطريقة التي يجل بها الشيعة في بلاد ما بين النهرين أئمتهم بصورة تقرب إلى التقديس. وعام 1802، أغار مسلحون نجديون في صفوفهم عدد من المتطوعين من بلدة الفلوجة على مدينتي كربلاء والنجف اللتين تتمتعان بمكانة رفيعة عند الشيعة، ودمروا خلال الإغارات العديد من الأضرحة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الفلوجة موطنا لمعظم رجال الدين الأصوليين المتشددين والمدارس الخاصة بهم في العراق. ومن ثم، كان لا بد لهذا الطابع الديني للفلوجة من الاصطدام مع شخصيتها كواحدة من المراكز العسكرية المهمة. وبالفعل حدث الصدام الأول في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما أمرت الحكومة بأن يرفع الدعاء في نهاية جميع خطب المساجد لصدام حسين، ورفض رجال الدين في الفلوجة تلك الأوامر، فانتهى الأمر بزج كثيرين منهم في غياهب السجون. كذلك حاصر صدام المدينة ماليا عندما قطع الدعم الحكومي عن المدارس الدينية في الفلوجة، لكن هذا الإجراء لم يفت كثيرا في عضد المدينة، التي كانت تعتمد على بشكل جزئي على التبرعات والتحويلات التي كانت تأتيها من دول الخليج الغنية، التي تعج بالهيئات والجمعيات الخيرية الإسلامية النافذة. كذلك شيدت عدة دول خليجية المستشفيات ودور الأيتام والمرافق الاجتماعية الأخرى في الفلوجة كنوع من التقدير لطبيعتها المتدينة. في حرب غزو العراق عام 2003، ما كان هناك مبرر أمام أهل الفلوجة للوقوف بجانب صدام حسين، غير أنه وقع بعد ذلك عدد من الحوادث المؤسفة في البلدة. إذ وقع أول تلك الأحداث في مارس (آذار) 2003 عندما أطلقت إحدى القاذفات البريطانية أربعة صواريخ موجهة بالليزر على جسر فوق نهر الفرات جنوب المدينة، ومع أن ثلاثة من الصواريخ أخطأت أهدافها وسقطت في النهر، فإن الرابع ضل طريقه وأصاب سوقا مفتوحة داخل الفلوجة، مما أسفر عن مقتل نحو 150 من المدنيين الأبرياء. ولقد استغل الأصوليون وبقايا جيش صدام والحرس الجمهوري في الفلوجة تلك الحادثة لإثارة الكراهية ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وخوفا من أن تكون قوات الائتلاف بمثل وحشية صدام حسين، بدأت المظاهرات صغيرة واقتصر تنظيمها على الميدان الرئيس في المدينة. ولكن سرعان ما أدرك زعماء الفلوجة أن التحالف لا يمكن أن يدخل المدينة ويُعمل فيها القتل كما كان يفعل صدام حسين، فضلا عن أن وجود المئات من الصحافيين الأجانب وكاميرات التلفزيون وفر لهم الحماية اللازمة لتنظيم مثل تلك المظاهرات. وهكذا غدت الفلوجة مسرحا للمظاهرات شبه اليومية، واكتسبت شهرة واسعة كمركز المعارضة الرئيس لقوات التحالف. أيضا، ارتكبت قوات التحالف ما وصفته بخطأ غير مقصود جعل الأمور تتدهور أكثر، إذ استولت القوات الأميركية على الوحدات السكنية، التي كانت قد بنيت للحرس الجمهوري وأسرهم، وحولتها إلى مساكن لإيواء عسكرييها. وكان جرى إخلاء تلك المنازل قبل بداية الحرب، عندما أرسل الحرس الجمهوري أفراد أسرهم إلى أماكن بعيدة أكثر أمنا بعيدا عن بغداد. ولكن هذه الأسر اكتشفت عندما عادت إلى المدينة بعد سقوط صدام حسين في أبريل أن منازلها يحتلها الأميركيون. في السياسة يُقال الأخطاء لا تأتي فرادى، إذ تفاقم الوضع أكثر عندما قرر السفير الأميركي بول بريمر، رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة، تفكيك الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري. وأدت هذا الخطوة إلى أن وجد آلاف العراقيين أنفسهم فجأة مشردين من دون مأوى أو عمل، فضلا عن أنهم صاروا موضوعا للسخرية من قبل المواطنين في بلادهم الذين أخذوا يصفونهم بـ«الجبناء» الذين ولوا هاربين وقت الضربة العسكرية الأميركية. وهكذا، قرر هؤلاء أن حمل السلاح ضد القوات الغازية بات السبيل الوحيد الذي سيوفر لهم عملا يعتمدون عليه في إعالة عائلاتهم، فضلا عن أنه يمثل مبررا منطقيا لصمودهم واستعادة كرامتهم، وبالفعل، مثل كل ذلك وصفة مثالية للاقتتال والاحتراب. في المقابل، جعل الموقع الجغرافي للفلوجة منها مكانا مثاليا لأعضاء مجموعات حروب العصابات لاختباء. فالمدينة تغطي مساحة صغيرة نسبيا لا تتعدى 3×3.5 كيلومتر مربع، تحيط بها بساتين نخيل كثيفة، مما يمكّن أي شخص أن يظل متواريا عن الأنظار كما يريد. ثم إن المدينة بنيت على ضفتي نهر الفرات، مما يوفر فرصا كبيرة لإمكانية الدخول والخروج منها عن طريق النهر. أضف إلى ذلك أن المزارع الكثيفة، التي تحيط بالفلوجة في شكل حلقة عظيمة، تعمل كحائط صد دفاعي آخر، بالإضافة إلى كونها ممرا مثاليا للهروب خارج بساتين النخيل. وأخيرا وليس آخرا هناك الطبيعة الطينية لأرض المدينة التي تجعل من الصعب على المعدات العسكرية الدخول إليها. من جهة ثانية، نظرا لضيق مساحة الفلوجة فإنها تتصدر مدن العراق من حيث الكثافة السكانية، وهي تحتوي على متاهات من الأزقة والشوارع الضيقة التي تعج بأعداد هائلة من الناس الذين يعيشون في مساكن صغيرة نسبيا، مع أن بعض الشوارع القليلة الواسعة تخترقها وتكفي لتحرك المدرعات العسكرية فيها. ولقد استطاعت قوات التحالف السيطرة على الفلوجة عندما قررت مجموعات «الصحوات»، التي نظمتها القبائل والعشائر السنية، طرد الأصوليين الجهاديين الأجانب من مدينتهم. اليوم تقدّر بعض المصادر أنه بعد اندلاع القتال الأخير في الفلوجة لم يبق بها أكثر من ربع أو ثلث سكانها، ويذكر أنه في وقت سابق من الشهر الحالي ناشد رئيس الوزراء نوري المالكي جميع سكان الفلوجة مغادرة المدينة. غير أن تقارير أخرى واردة من المدينة تقول إن غالبية سكان المدينة، حيث تتورط ثلاث مجموعات مختلفة على الأقل في المعارك الحالية، قرروا البقاء رافضين المغادرة. وتتكون إحدى تلك المجموعات من بقايا جيش صدام حسين، ويعتقد أعضاء هذه المجموعة أنهم إذا ما استطاعوا منع إقامة نظام جديد في بغداد، فإنهم سيتمكنون من استعادة النظام القديم، واسترجاع جزء ولو بسيط من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في يوم من الأيام. بينما تتكون المجموعة الثانية من المسلحين الأصوليين المحليين المدعومين من قبل بعض العناصر القبلية والعشائرية، الذين يرون - على الرغم من سعادتهم بسقوط نظام صدام حسين - أن المالكي يريد احتكار السلطة من أجل الشيعة، ومن ثم يحرم السنة العراقيين من حقوقهم المشروعة في السلطة والرخاء. وعلى الرغم من أن العرب السنة العراقيين يمثلون 25 في المائة على الأقل من مجموع السكان في العراق، فإن الاستثمارات الحكومية الجاري تنفيذها في المحافظات الثلاث الرئيسة التي يتمركزون فيها تقل عن 10 في المائة من مجموع استثمارات القطاع العام في البلاد. كذلك يسمع السنة العراقيون كثيرا عن الازدهار غير المسبوق الذي تحظى به المحافظات الكردية الثلاث، التي تتمتع بحكم ذاتي، والرخاء الذي تتمتع به المناطق الجنوبية الشيعية، ويشعرون بأن المالكي قد خذلهم. ولمن يزور العراق اليوم يكتشف أنه في حين تزدهر أربيل والنجف، تبدو الفلوجة والرمادي في طريقهما إلى التراجع والخراب. أما المجموعة الثالثة فتتكون، كما جرت الإشارة إليها في البداية، من المتشددين المرتبطين بتنظيم «القاعدة»، وهم في الغالب جهاديون أجانب أتوا من مختلف الدول العربية. ويتميز هؤلاء بجملة من المهارات التي يفتقر إليها الثوار المحليون، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية وتقطيع الرؤوس. غير أنه ينبغي الإشارة مرة أخرى إلى أن الود المتبادل ليس كبيرا إطلاقا بين الجهاديين الأجانب والمتمردين المحليين في الفلوجة، غير أن الفريقين يشعران، مؤقتا، بأن كليهما بحاجة إلى الآخر، بينما يهدد المالكي بالقضاء عليهم جميعا.

الاتحاد المغاربي بعد «الربيع العربي»: قنابل موقوتة وحروب استنزاف جديدة الاتحاد المغاربي بعد «الربيع العربي»: قنابل موقوتة وحروب استنزاف جديدة

$
0
0
بعد 55 سنة من مؤتمر طنجة الذي جمع قادة الأحزاب الوطنية، في كل من تونس والجزائر والمغرب، وتعهد بإنجاز «الوحدة المغاربية في أقرب وقت»، تتنوع التوترات الأمنية والسياسية بين دول شمال أفريقيا، إلى حد إلغاء سحب السفراء، وإلغاء زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المنطقة. وبعد نحو ربع قرن من قمة مراكش «التأسيسية للاتحاد المغاربي»، في فبراير (شباط) 1989، بمشاركة قادة الدول المغاربية الخمس، يبدو تحقيق شعار «الحلم الوحدوي المغاربي» الذي رفعه المصلحون والمناضلون الوطنيون، خلال القرن الماضي، بعيدا جدا. لقد برزت «قنابل موقوتة» وصراعات «استراتيجية» جديدة، ارتبط الكثير منها بعجز ساسة «الدولتين الكبريين»، الجزائر والمغرب، عن التخلص من مضاعفات «حروب الاستنزاف الحدودية» الموروثة عن عقود الاحتلال، وعلى رأسها الصراع العنيف منذ 1975، حول الصحراء. وبعد الآمال التي علقت على مساهمة «الربيع العربي» في التقريب بين العواصم المغاربية، زاد الوضع تعقيدا، وتعمقت الهوة، وتباينت الأجندات، رغم «الشعارات الجميلة» التي تردد هنا وهناك. فإلى أين تسير المنطقة المغاربية؟ وهل سيغير ساستها أولوياتهم بعد تأكدهم من حجم الخسائر المالية والتنموية الهائلة التي تتسبب فيها سياساتهم «العدائية» بعضهم لبعض، ومن «الكلفة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية» الباهظة جدا لعدم إنجاز آلاف القرارات والتوصيات «الوحدوية» الصادرة خلال العقود الماضية، عن القادة والوزراء والخبراء في الدول الخمس؟ ينبغي الإقرار أولا بكون حصيلة مسيرة مؤسسات العمل المشترك في المنطقة المغاربية لم تكن دوما سلبية، فقد أسفرت مئات، وربما آلاف، من اجتماعات الخبراء والمديرين والوزراء والقادة، خلال السنوات الـخمس والخمسين الماضية، عن تطوير العلاقات البينية مغاربيا، وخصوصا بين كل من تونس وليبيا، وتونس والجزائر، والمغرب والجزائر. ومن خلال المتابعة الدقيقة لتطورات الشراكة الثنائية والجماعية بين الدول المغاربية الخمس، يتضح أن الإخفاقات السياسية الوحدوية لم تمنع تطوير المشاريع المشتركة بالجملة في مختلف القطاعات، والاستفادة من الإعفاءات الجمركية والتسهيلات والامتيازات التي منحتها الاتفاقيات واللجان العليا المشتركة ومؤسسات العمل الثنائية والمغاربية التي ما تزال ترعاها الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي في الرباط والهيئات التي تشرف عليها، وبينها مؤسسات مالية وإدارية عليا وجهوية يدعمها عدد هائل من الخبراء والفنيين وصناع القرار الحكومي والخاص. ورغم غلق الحدود الجزائرية المغربية منذ أغسطس (آب) 1994، والأزمات الأمنية والسياسية، فإن المغرب هو الشريك التجاري العربي والمغاربي الأول للجزائر، حسب إحصائيات المبادلات الرسمية في البلدين. في الوقت عينه، تؤكد تقارير أمنية واقتصادية متفرقة أن ملايين السكان في الجزائر والمغرب يعيشون في المحافظات الحدودية للبلدين من «التجارة الموازية»، ومن «التهريب»، وما يسمى «الاقتصاد الموازي» أو «السوق السوداء». وتتكرر الظاهرة نفسها بحجم أكبر في المحافظات الحدودية التونسية ــ الجزائرية، والتونسية ـ الليبية، حيث أصبحت «التجارة الموازية» و«صناعة التهريب» من بين «آليات التشغيل والتنمية» المسموح بها رسميا من قبل سلطات البلدان الثلاثة، إلى درجة أصبحت فيها تقديرات جامعية وإعلامية وشبه رسمية تونسية وليبية وجزائرية، تتحدث عن كون قيمة المبادلات الرسمية بين تونس وكل من جارتيها ليبيا والجزائر تفوق بخمسة أضعاف، الأرقام الرسمية التي تحوم حول مليار دولار بالنسبة لكل بلد. وتقدر مصادر تونسية شبه رسمية عدد العاملين في قطاع «التهريب» مع ليبيا والجزائر، بأكثر من نصف مليون مواطن، أي أن ما لا يقل عن عشر السكان في تونس يعتمدون في مورد رزقهم على المبادلات التجارية البينية «غير القانونية»، وعلى المواد «الآسيوية» المهربة من جمارك الدول المغاربية. وفي قطاعات السياحة والعلاج الخاص والخدمات، تقدر المصادر الرسمية أن تونس وحدها تستقبل سنويا، منذ عقود، ما بين مليونين وأربعة ملايين سائح مغاربي غالبيتهم من ليبيا والجزائر، يؤكد الجميع أنهم يجلبون معهم إلى تونس وإلى الاقتصاد الموازي مليارات من الدولارات، ويساهمون في إحداث عشرات آلاف مواطن الرزق الإضافية. وتتكرر الظاهرة نفسها بين المغرب والجزائر، إذ تؤكد إحصائيات مؤسسات الطيران والسياحة والأعمال، تنقل عشرات آلاف المسافرين والسياح الجزائريين والمغاربة في الاتجاهين جوا، رغم غلق الحدود البرية. تحديات لكن المؤشرات الإيجابية الكثيرة لا ينبغي أن تحجب حقائق مؤلمة أكدها غالبية الجامعيين والساسة من البلدان الخمسة مرارا، على رأسهم الدكتور عبد الجليل التميمي مدير «مؤسسة التميمي للدراسات»، الذي نظم مؤتمرا دوليا عن «الخسائر الاقتصادية والاجتماعية» بسبب تعثر إنجاز الاتحاد المغاربي، تحت عنوان «كلفة اللامغرب». وأكدت الورقة الختامية لهذا المؤتمر الدولي أن «الكلفة ثقيلة جدا: حرمان دول المنطقة من أكثر من نقطتين في نسب النمو ومئات الآلاف من فرص التشغيل الجديدة». لا بد من التسليم أولا بأن الساسة في البلدان المغاربية كانوا سباقين منذ 1958 إلى إعلان الإرادة السياسية للوحدة، خلال لقاء الزعامات التاريخية لأحزاب التحرير في مؤتمر طنجة التاريخي. في هذا السياق أيضا، أكد الدكتور توفيق البشروش أن «التجارة الخارجية والعلاقات المغاربية تتأثر سلبا بعجز السياسيين عن بناء الاتحاد المغاربي»، بينما أكد مصطفى الفيلالي، الوزير في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ثم المسؤول عن آلية التنسيق بين الدول المغاربية في تونس، أن «قادة حكومات الاستقلال وبناء الدولة الحديثة لم ينجحوا في بناء توافق مغاربي يمكنهم من تكريس القرارات الإدارية والحكومية، والتوصيات الطموحة الخاصة بتفعيل الشراكة الاقتصادية». حلقة مفرغة ويرى كثير من الخبراء والسياسيين أن «الدوران في حلقة مفرغة» بدأ منذ إعلان الرباط غلق حدودها مع الجزائر المضطربة أمنيا، مما أعاد المشروع المغاربي إلى «المربع الأول» على حد تعبير الأستاذة الجامعية الليبية الدكتورة فايزة يونس الباشا. ويربط المؤرخان عبد اللطيف الحناشي، وخالد عبيد، بين تعثر تحقيق الاتحاد الاقتصادي والسياسي والأمني، و«مربع حروب الاستنزاف بين الشقيقتين الجزائر والمغرب، بسبب الخلافات الحدودية الموروثة عن التقسيم الاستعماري للمنطقة عشية استقلال تونس والمغرب، ومربع النزاع حول الصحراء الغربية، وتناقضات المواقف من جبهة البوليساريو التي تعمل منذ أواسط عقد السبعينات من القرن الماضي، على الانفصال عن المغرب وتأسيس (جمهورية عربية صحراوية) تتخذ قيادتها منذ عقود مخيمات «البوليساريو» في تيندوف (جنوب غربي الجزائر) مقرا دائما لها». ولفت الجامعي والناشط الحقوقي التونسي جلول عزونة، الانتباه إلى ما وصفه بتسبب «معضلة الصحراء الغربية» في عرقلة مسار تفعيل الآلاف من «قرارات القمم والاجتماعات رفيعة المستوى حول الشراكة بين دول الاتحاد المغاربي ثنائيا وإقليميا». واتضح أن على رأس تلك العوامل «الخلافات الحدودية» بين الجزائر والرباط، الدولتين الكبريين في المنطقة المغاربية، والأهم من حيث حجم الجالية في المهجر عموما، وفي فرنسا وبلدان جنوب أوروبا خصوصا. ولا تقتصر تلك الخلافات الحدودية على ملف الصحراء، بل تشمل كذلك خلافات حول ترسيم الحدود شمالا، لأن السلطات الاستعمارية توسعت عام 1956 غربا وشرقا، عند رسم حدودي المملكة المغربية وتونس قبل إعلان استقلالهما، لأن قيادتها كانت تصف الجزائر بـ«الفرنسية»، وتعدها جزءا من التراب الفرنسي، ولم تكن تنوي الانسحاب منها. وتسبب ذلك الخلاف الحدودي في اندلاع أول «مواجهة مسلحة» مغربية - جزائرية عام 1963 (حرب الرمال) بعد سنة من إعلان استقلال الجزائر. بطالة الشباب وتكشف تقارير رسمية ومستقلة كثيرة، مثلما يورد الأستاذ عيسى البكوش، ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، بسبب تعذر تنفيذ القادة لالتزاماتهم بشأن بناء الاتحاد المغاربي اقتصاديا. ومن أهم تلك الخسائر: * حرمان مئات الآلاف من شباب الدول المغاربية العاطلين عن العمل، من فرص توفير موارد رزق بالجملة، له علاقة مباشرة وغير مباشرة بتجسيم قرارات تحرير تنقل رؤوس الأموال والسلع والمسافرين في كل الاتجاهات في الدول الخمس. * حرمان رجال الأعمال في الدول المغاربية من فرص بناء سوق موحدة بها نحو 100 مليون مستهلك عوض الأسواق الصغيرة الحالية. وانعكس ذلك سلبا على كل فرص الإنتاج والاستثمار والتشغيل، كما حال دون «تحسين السيولة المالية وترفيع قيمة الادخار وعلى تجسيم نيات الاستثمار الوطني والمغاربي والعربي والدولي»، على حد تعبير الخبير العربي الدكتور عبد الله تركماني. * حرمان اقتصادات الدول الخمس من فرص التكامل الثنائي والجامعي: جنوب - جنوب، عبر تقاسم الأدوار والأولويات والاختصاصات، مثلا عبر تخصص موريتانيا في صيد الأسماك والزراعات الحيوانية وصناعات الحديد، والمغرب وتونس في إنتاج الفوسفات والباكورات الزراعية والزيوت والصناعات الغذائية وصناعات الإلكترونيك ومكونات السيارات، مقابل تخصص الجزائر وليبيا في إنتاج المحروقات (بسعر تفضيلي للدول المغاربية) والصناعات النفطية والبتروكيماوية. * حرمان المنطقة المغاربية من شركاء ومستثمرين عرب وأجانب من الحجم الكبير، لأن الدول الأوروبية وأميركا واليابان والصين والهند، وبقية الدول الصناعية الغنية، تشترط توحيد المنطقة المغاربية وتحسين البنية الأساسية فيها «حتى تغامر باستثمارات عملاقة فيها»، على حد تعبير الدكتور الصادق بلعيد. * حرمان المنطقة المغاربية من لعب دور الفاعل الاستراتيجي الإقليمي والدولي، بما يتماشى مع موقعها الجغرافي المميز بالقرب من أوروبا وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وكبوابة لأفريقيا وللعالم العربي. * حرمان ملايين المهاجرين المغاربة في أوروبا وخارجها، من لعب دور اقتصادي وسياسي يفيدهم في بلدانهم الجديدة ويمكنهم من المساهمة في توظيف المليارات من مداخيلهم في أوروبا وأميركا وآسيا (خصوصا في دول الخليج) في تنمية مواطنهم. الوساطة السعودية يذكر أن التنسيق المغاربي في مستوى الخبراء والوزراء وقادة الدول، تواصل بشكل ماراثوني طوال السنوات الستين الماضية، لا سيما منذ قمة «زيرالدة» بالجزائر في يونيو (حزيران) 1988، التي جمعت، لأول مرة، قادة الدول المغاربية الخمس بحضور العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز. وأمكن إنجاز تلك الخطوة بعد وساطة سعودية مماثلة قام بها الأمير فهد، حين كان وليا للعهد، في المغرب على هامش قمة عربية، إذ جمع لأول مرة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، في خطوة ساهمت في إذابة جليد عقد حرب الصحراء. ومهدت تلك الخطوة التاريخية لقمة تأسيس الاتحاد المغاربي في فبراير (شباط) 1989 في مراكش، ثم قمته الأولى في تونس في يناير (كانون الثاني) 1990، التي وضعت الأسس القانونية والإدارية والترتيبية والاقتصادية لتجسيم المضمون السياسي لاتفاقية التأسيس في مراكش. إذن فالأسس القانونية والسياسية رسمت منذ نحو ربع قرن في مراكش وتونس، ووقع تفعيلها في القمم المغاربية الدورية التي عقدت ما بين 1990 و1994 في الجزائر وفي ليبيا ثم في الدار البيضاء ونواكشوط. ووقع تركيز الآلية الدائمة للاتحاد في الرباط مع اتفاق على أن يكون الأمين العام تونسيا ومساعدوه من بقية الدول الخمس، ويتولى هذه الخطة منذ نحو ثماني سنوات الحبيب بن يحيى، وزير خارجية تونس الأسبق، خلفا للحبيب بولعراس ولمحمد عمامو، وكلاهما وزير سابق للخارجية في تونس. كما وقع تفعيل الشراكة الاقتصادية قطاعيا وثنائيا وثلاثيا بصيغ كثيرة، لا سيما من خلال الاتفاقيات والخطوات العملية التي قطعتها تونس مع كل بلد مغاربي بصفة ثنائية، وبصفة أخص مع جارتيها ليبيا والجزائر. وأوشكت المنطقة المغاربية أن تسبق الاتحاد الأوروبي في تجسيم قرارات طموحة جدا، من بينها التحرير الجمركي الشامل، وتحرير تنقل السلع ورؤوس الأموال والمسافرين من دون شروط. تحديات وفرص لكن رغم كل هذه التحديات والنقائص، فإن المنطقة المغاربية تبدو أمام فرص كثيرة لتدارك أمرها، والانطلاق بنسق أسرع في تجسيم المقررات الخاصة ببناء المشروع المغاربي قطاعيا وثنائيا وإقليميا. * أولى أبرز الفرص الجديدة بعد «الربيع العربي»، تصالح غالبية النخب العلمانية وصناع القرار البارزين في الدول الخمس مع القوى السياسية الإسلامية، التي أصبحت طرفا فاعلا في اللعبة السياسية داخل كل دول شمال أفريقيا، سواء تلك التي شملتها إصلاحات داخلية عميقة مثل المغرب، والتي أصبحت مسرحا لتغييرات راديكالية على أعلى هرم السلطة مثل تونس وليبيا. * وبصرف النظر عن المشكلات الأمنية والسياسية المعقدة التي تعيشها تلك الدول، وخصوصا ليبيا، بسبب «انهيار مؤسسات الدولة المركزية»، فإن التقارب بين التيارين الإسلامي والعلماني في الدول الخمس زائد مصر، يمكن أن يوفر ضمانات جديدة لإنجاز المشروع المغاربي وضمان بناء سوق كبيرة مفتوحة تمتد من سيناء إلى طنجة ونواكشوط. ولعل من أبرز المؤشرات الإيجابية التي قد تدعم الخروج من دوامة «الإفلات» من تنفيذ المقررات الوحدوية الصادرة عن الاجتماعات والقمم المغاربية، دخول دول جنوب المتوسط في مسار شراكة وتبادل حر مع فضاءات اقتصادية ومالية عالمية عملاقة، من أبرزها الاتحاد الأوروبي، الشريك الرئيس لدول الاتحاد المغاربي زائد مصر. ومهما كانت الخسائر التي لحقت باقتصادات دول جنوب المتوسط، بسبب انهيار عدد هائل من شركاتها الصغرى، التي تضررت من منافسة نظيرتها الأوروبية والعالمية، فإن من مميزات اتفاقات الشراكة الأورومتوسطية والأوروبية المغاربية، أنها أقحمت كل بلد مغاربي في الفضاء الاقتصادي نفسه مع جيرانه بصفة آلية، بعد إبرام اتفاقيات مع بروكسل. وإذا سلمنا بأن واشنطن ومنافسيها الآسيويين، اليابان والصين والهند، يشجعون الدول المغاربية على الاندماج، فإن مسار التوحد يمكن أن يتقدم بضوء أخضر دولي أكثر وضوحا. خلاف الصحراء لكن كثيرين، وضمنهم السفير صلاح الدين الجمالي (وزير الدولة التونسي الأسبق للشؤون المغاربية)، يرون أن كل «مؤشرات الانفراج الاقتصادية والسياسية والأمنية ستبقى محدودة الأثر إذا لم يتوصل صناع القرار في الرباط والجزائر إلى توافق سياسي وسطي ينهي عقودا من الاقتتال ومن حروب الاستنزاف ومن (الانفجارات) غير المرغوب فيها بسبب تباين وجهات النظر في طريقة حسم الخلافات الحدودية والسياسية الجزائرية والتناقضات فيما يتعلق بطريقة تسوية نزاع الصحراء الذي طال أكثر من اللازم». ويعتقد بعض الخبراء أن «حسم نزاع الصحراء يحتاج إلى تدخل دولي أكثر حزما ونجاعة». الورقة الدولية وبعد أن تعثرت أخيرا زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المنطقة، بسبب التوتر الجديد في علاقات الرباط والجزائر و«أزمة القنصلية الجزائرية في الدار البيضاء»، فإن إقرار مبدأ تنظيم الزيارة الرسمية للعاهل المغربي إلى واشنطن، رغم إلغاء زيارة كيري، دليل آخر على كون واشنطن ما تزال تتحكم في جانب كبير من قوانين اللعبة الدبلوماسية والسياسية في بلدان شمال أفريقيا. وفي هذا السياق، تبدو واشنطن وشركاؤها الغربيون أكثر قدرة من ذي قبل على «الخروج من الحياد السلبي في النزاعات الجزائرية ــ المغربية»، وعلى تقديم «مقترحات ملموسة» توقف إهدار المليارات في نفقات التسلح ودبلوماسية الحرب وفي حماية «حدود هشة»، خصوصا بعد أن تصاعد تأثير عصابات الإرهاب وتبييض الأموال، وتنوعت عمليات الجماعات المسلحة وتوسعت لتشمل كل دول «الساحل والصحراء وشمال أفريقيا» من سيناء إلى المحيط الأطلسي. لقد تسبب «الربيع العربي» في نزوح نحو ثلث الشعب الليبي إلى كل من تونس ومصر والجزائر والمغرب، وبينهم آلاف من أعضاء الميليشيات السابقة الموالية للعقيد الراحل معمر القذافي أو لمعارضيه، بما يوشك أن يفجر «قنابل موقوتة كثيرة» في كل الدول المغاربية، وخصوصا في الجزائر المجاورة لمالي، والتي تؤكد التقارير أن «المهربين» و«الإرهابيين» في جنوبها يقومون سنويا بتهريب أكثر من عشر إنتاج الجزائر من المحروقات في اتجاه مالي وبلدان «الساحل والصحراء الأفريقية»، حيث السلطات المركزية ضعيفة جدا، وبعضها متورط بدوره مع عصابات التهريب والإرهاب و«الاتجار غير المشروع في المال والسلاح والمخدرات والبشر». فهل يحسن قادة المنطقة الجدد الاستفادة من المعطيات الدولية الجديدة لتجسيم أحلام الوحدة التي تغنى بها شهداء الحركة الوطنية ورواد الدولة الحديثة بعد الاستقلال، أم تنتصر عليهم القوى الانفصالية وعصابات العنف والجريمة المنظمة وجماعات الإرهاب الجديدة، التي تسبب القصف الفرنسي الأطلسي لمواقعها في «مالي»، في هجرتها نحو «الشمال»، وخصوصا نحو الجزائر وتونس وليبيا المجزأة والمقسمة منذ انهيار السلطات المركزية فيها؟ * كاتب وإعلامي تونسي

غربيون في الجماعات «الجهادية»غربيون في الجماعات «الجهادية»

$
0
0
ارتفع عدد المسلمين الغربيين المنضمين للجماعات المسلحة المقاتلة في سوريا إلى قرابة ألفي مقاتل، بعد أن كانوا لا يتجاوزون 440 قبل نهاية العام 2011، وكانوا آنذاك يمثلون ما لا يتجاوز 11في المائة من إجمالي المقاتلين غير السوريين ضد نظام بشار الأسد. وفي آخر تقرير نشره المركز الدولي لدراسات الراديكالية، التابع لـ«كينغز كوليدج» في لندن، واعتمد فيه على 1500 مصدر معلومات، فقد بلغ عدد المقاتلين غير السوريين على الأراضي السورية أحد عشر ألف مقاتل بينهم قرابة الألفين من مسلمي أوروبا، منهم اربعمائة واثنا عشر من فرنسا وثلاثمائة وستة وستون من بريطانيا. خمسة عشر بلدا أوروبيا من أصل ثلاث وسبعين جنسية يقاتل بعض أفرادها مع الجماعات المسلحة في سوريا، حسب مصادر متعددة، إلا أن مسؤولين في حكومة بشار الأسد يقولون إن الجنسيات المقاتلة تفوق الثمانين جنسية. وينتقد كثير من المحللين والتقارير المتخصصة نظام الأسد وتساهله في دخول الجماعات المسلحة إلى سوريا بهدف استغلالها أمام الرأي العام الدولي والتلويح بخطر الإرهاب. الأرقام التي بدأت الصحف الغربية تتناقلها من فترة لأخرى عن أعداد الأوروبيين المقاتلين والمنضمين للجماعات المسلحة على الأراضي السورية, دفعت بالمسؤولين في البرلمان الأوروبي للتصريح بمخاطر مشاركة المقاتلين الأوروبيين في القتال إلى جانب الجماعات المسلحة في سوريا، وانعكاسات ذلك على أمن أوروبا، لا سيما احتمالية عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم الخمسة عشر التي جاءوا منها، ومدى إمكانية مشاركتهم أو إشراكهم في عمليات انتحارية. ففي الأول من أغسطس (آب) الماضي، طالبت تسع دول، هي فرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا ولكسمبورغ وهولندا وبولندا وبريطانيا والسويد، البرلمان الأوروبي إنشاء قاعدة بيانات تسمح بتتبع المقاتلين الأوروبيين في سوريا. أبدت هذه الدول مخاوف من عودة مواطنيها إلى بلدانهم و شن هجمات في أوروبا. ثم جاء التصريح بالقلق من تزايد أعداد المقاتلين الأوروبيين في سوريا على لسان منسق شؤون مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي جيل دي كيرشوف، والذي شدد في مايو (آيار) الماضي على ضرورة التحرك لوقف تزايد أعداد الأوروبيين الذاهبين إلى سوريا للقتال مع الجماعات المسلحة، واصفا ذلك بـ «المشكلة الخطيرة». هذا القلق يعيد إلى الأذهان قصة آدم غدن، المعروف بأبي عزّام الأميركي، المواطن الأميركي الذي اعتنق الاسلام وهو في السابعة عشرة ثم انتقل بعد ذلك للعيش في باكستان والتحق بتنظيم القاعدة، وفي عام 2004م أذاعت محطة «أيه بي سي» الإخبارية شريط فيديو يتحدث فيه أبو عزّام الأميركي وهو يهدد بلده الأم أميركا بتنفيذ هجمات إرهابية فيه. الدول الأوروبية أكثر وضوحا في التعبير عن قلقها، وكذلك أكثر جدية في التصريحات المتتالية التي أطلقها نواب في البرلمان الأوروبي أو مسؤولون في بعض الدول المتخوفة ومنها فرنسا وبلجيكا، بخلاف الولايات المتحدة الأميركية، والتي لم تصرح بشأن الأعداد التقريبية للمواطنين الأميركان الذاهبين للقتال مع الجماعات المسلحة في سوريا. وهذا عدا تصريح نشرته وكالة الأمن القومي الأميركية في نوفمبر(تشرين الثاني) الماضي على لسان مصدر مسؤول، قال إن 3 مواطنين أميركيين يواجهون تهما بتخطيطهم للذهاب إلى سوريا والانضمام إلى «جبهة النصرة». مع ذلك سارعت واشنطن إلى محاولات التصدي للتجنيد الإليكتروني الذي يقوم به تنظيم القاعدة والجماعات التابعة له، بعد أن نشرت ملصقات وإعلانات أحدها يطلب من الناطقين باللغة الإنجليزية والذين يعتزمون الذهاب إلى سوريا بعدم المشاركة في دمارها. ويقول نص أحد هذه النشرات «الأسد والقاعدة يدمرون سوريا، لا تشارك في ذلك». استغلال نظام الأسد الجماعات المسلحة وينتقد عدد من المحللين والتقارير المتخصصة حكومة بشار الأسد تعمدها إطلاق سراح بعض العناصر الإرهابية وتساهلها في دخول الجماعات المسلحة إلى سوريا بهدف استغلالها أمام الرأي العام الدولي والتلويح بخطر الإرهاب، وأن ما يحدث على الأراضي السورية هو عبارة عن إرهاب وليس ثورة شعبية. ولا يستبعد رئيس مؤسسة كويليام للدراسات والأبحاث في لندن نعمان بن عثمان أن بعض الجماعات المسلحة المقاتلة هناك تدار عبر أجهزة أمنية لمعادلة كفة القتال أو الوقوف إلى جانب نظام الأسد أو عكس ذلك. وهذا ما يعطي دلالات واضحة على استغلال نظام الأسد الجماعات المسلحة بتسهيل دخولها الأراضي السورية لاستعطاف المجتمع الدولي ولإضفاء شرعية أكبر على نظامه. ما ذهب إليه بن عثمان ذهب إليه كثيرون قبله، فبعد أن كان نظام الأسد يصف الثوار السلميين بالإرهابيين، لم يكن لتنظيم القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى أي ذكر في بداية اندلاع الثورة السورية عام 2011. وبعد أن اشتد الخناق على نظام الأسد، بدأت أعداد الجماعات المسلحة بالتزايد، وفي المقابل بدأ مقاتلون تابعون للحرس الثوري الإيراني ولحزب الله اللبناني بالدخول في معارك علنية بالقصير على سبيل المثال، تبع ذلك تصريح من قبل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بأن جنوده في القصير سينتصرون في معركة بين الحق والباطل. * 2000 مقاتل أوروبي من 15 دولة * في ديسمبر(كانون الاول) الماضي، عاد منسق شؤون مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي دي كيرشوف للتشديد على ضرورة التحرك الجدي والاستفادة من بيانات المسافرين المتاحة عبر الخطوط الجوية لتعقب مقاتلي الدول الأوروبية في سوريا ومعرفة أوقات وكيفية دخولهم إلى هناك. السناتور البلجيكي فيليب دوينتر لخّص القلق الأوروبي في تصريح سابق له مقارب لتصريح دي كيرشوف حين قال : «إن عاد هؤلاء من سوريا فسوف لن يمارسوا الجهاد هناك، بل سيمارسونه على الأراضي الأوروبية، وهذا تهديد كبير للغاية لجميع دول أوروبا وليس على بلجيكا وحدها». وحسب الإحصاءات التي نشرها المركز الدولي لدراسات الأصولية، فإن فرنسا أكثر دولة خرج منها مقاتلون حتى شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حيث تجاوز عددهم 412 مقاتلا، تليها بريطانيا بـ 366 مقاتلا ثم بلجيكا بـ 296 مقاتلا وألمانيا بـ 240 مقاتلا، بينما سجلت كل من لوكسمبورغ وسويسرا أقل عدد من الأوروبيين الذاهبين إلى سوريا للقتال بواقع مواطن لكل منها كأقصى تقدير. رئيس مركز كويليام للأبحاث والدراسات في لندن نعمان بن عثمان قال لـ«الشرق الأوسط» إن الدافع للمسلمين الأوروبيين للمشاركة في القتال إلى جانب الجماعات المسلحة في سوريا، هو الضخ الهائل الذي تقوم به وسائل الإعلام وخصوصا على الانترنت لمشاهد الجثث ومناظر القتل بشكل يومي، رغم أن الدافع الأساس والعدو هذه المرة يختلف عما سبق..طبيعة العدو ليست كما سبق في أن جماعة مسلمة تقاتل حكومة غير مسلمة، كما حدث في قتال الجماعات المسلحة للاتحاد السوفييتي في أفغانستان أو الشيشان أو البوسنة. ويوضح: «العامل في سوريا مختلف وقد يكون عاطفيا أكثر وفي بداية الأزمة كان العدد قليلا جدا وبدأ يتزايد الآن حتى أن آخر الإحصاءات تقول إن عدد المسلمين الأوروبيين المقاتلين في سوريا قرابة 2000 مقاتل. هؤلاء تحولوا إلى جماعات لا تقاتل حكومة غير مسلمة، بل أفراد ضمن جماعات مسلحة تقاتل بعضها البعض وتعتنق الديانة نفسها، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند صرح الأسبوع المنصرم بأن هناك مئات الفرنسيين المسلمين يقاتلون في سوريا». ويؤيد بن عثمان القلق الأوروبي بطرحه دراسة أمنية عن المقاتلين الأوروبيين المشاركين في نزاعات خارجية من أفغانستان حتى العراق، إذ يقول : «ان شخصا من كل 9 أوروبيين يحتمل أن يقوم بعمليات انتحارية أو هجمات إرهابية بعد عودته إلى بلده». ويضيف: «هذا مؤشر خطر، ومثلا إذا كان قرابة 400 بريطاني يقاتلون في سوريا الآن فإن 40 من هؤلاء من المحتمل أن يقوموا بعملية إرهابية أو هجوم بعد عودتهم». كذلك حسب نعمان بن عثمان فإن ظاهرة مشاركة المسلمين الأوروبيين في القتال في بلدان النزاع «ليست وليدة اليوم، فهي بدأت منذ ما يسمى بالجهاد الأفغاني ثم تنامت تدريجيا في الشيشان والبوسنة رغم اختلاف طبيعة القتال ونوع العدو»، ويرى أن أحد أهم وأخطر عوامل قابلية المسلمين الأوروبيين أو غيرهم للنفور – كما هو مصطلح تلبية النداء – هو ما يسمى بـ «الدوافع المتغيرة» والتجنيد غير المتوقع كذلك، ثم يضيف: «قد يذهب أحدهم مثلا في هيئات إغاثية أو للعمل الخيري لمساعدة المتضررين وفجأة يجد نفسه في أحد خنادق القتال داعما لأيديولوجية معينة ضد فريق معين. والغريب في الأمر وتحديدا في مشاركة المسلمين الأوروبيين في القتال ضد بشار الأسد هو بدء قبول بعضهم لفكرة الطائفية، وهذا أحد مسببات القلق لدى الدول الأوروبية. المسألة ليست في عودة هؤلاء واحتمالية تنفيذهم لهجمات انتحارية من عدمه، بل في كونهم أدوات صراع طائفي جديد في بيئات أبعد ما تكون عن ذلك». وعن كيف تعاملت وستتعامل بعض الدول الأوروبية مع أزمة تزايد أعداد المقاتلين الأوروبيين في سوريا، يقول الخبير في الحركات الإسلامية صلاح الدين الجورشي إنه «من المستبعد أن يغلق القوس السوري قريبا، وأن ملف المقاتلين من أصول غربية سيبقى مفتوحا طيلة السنة الجديدة على الأقل». ويضيف: «خلافا لما يظن البعض، فإن الحكومات الأوروبية بالخصوص تحاول أن تتابع بدقة رعاياها المتورطين في المستنقع السوري، وتعرف عددهم بشكل تقريبي، وتتقصى أخبارهم بشكل متواصل. بل إن العديد من الحكومات الأوروبية تسعى حاليا لإعادة ربط الصلة بنظام دمشق من أجل التعاون معه حول ملف المقاتلين من رعاياها» . ويتابع الجورشي : «لقد أصبحت هذه الحكومات تخشى على أمنها القومي في حال عودة هؤلاء المسلحين إلى دولهم في صورة فشل جهودهم بسوريا. لكن التجارب السابقة أثبتت أن احتواء هذا النمط من الشباب أمر ممكن. فالذين قاتلوا في البوسنة أو بالعراق خضعوا للمراقبة، واندمج الكثير منهم مرة أخرى في بيئتهم الأصلية. وإذا كان هناك في أوروبا اليوم من دعوا إلى سحب جنسية المشاركين في الحرب الأهلية السورية من أجل منع عودتهم إلى بلدانهم، إلا أن هذا الرأي لا يزال يعتبر إلى حد الآن شاذا ولم يؤخذ به رسميا، حيث أن الرأي السائد هو العمل على تشجيع العودة والاندماج، مع ملازمة الحذر والتمييز بين الذين يعتبرون معركتهم تنتهي داخل الحدود السورية، وبين آخرين يؤمنون باستراتيجية الحرب الدائمة، ويعملون على نقل العنف المسلح إلى داخل الفضاء الأوربي بحجة تحميل أوروبا مسؤولية استمرار نظام الأسد، وذلك وفق استراتيجية تنظيم القاعدة وحلفائها. وهو ما من شأنه أن يبقي هذا الملف مفتوحا لفترة قد تطول، وذلك لاستعماله في أكثر من سياق، ولتحقيق أكثر من هدف». * حلم «الخلافة» وأمان التجربة * وفي تحليل لأسباب تدفق المقاتلين الأوروبيين إلى سوريا يرى الجورشي موضوع مشاركة المقاتلين الغربيين في الأزمة السورية «طبيعيا» لعدة أسباب، أهمها : ازدهار تنظيم القاعدة من جديد، إضافة إلى أن الأراضي السورية أصبحت شبه مفتوحة أمام المقاتلين من كل مكان لدخولها، ولا سيما المناطق المحررة التي أصبح الكثيرون يتدفقون إليها لإعادة حلم «الخلافة الإسلامية» وتجربة أساليب حياتية مختلفة كنوع من التجربة والمغامرة. ويضيف الجورشي في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد انفتحت سوريا كليا أمام القادمين من أجل المغامرة أو الحلم بعودة «الخلافة الإسلامية»، أو دعم شعب في حالة مواجهة مع نظام عنيف. ولم يعد الأمر يتعلق بجماعات صغيرة ومتفرقة تقوم بمناوشات وعمليات محدودة واستعراضية هدفها إضعاف الأنظمة، مثلما كان يحصل مع الأشكال التقليدية لتنظيم القاعدة في المرحلة السابقة، وإنما انتقل المشهد نحو تشكل جيوش حقيقية تتمتع بالقوة والقدرة والتدريب الجيد والانضباط الاحترافي، والتمركز على مساحات جغرافية واسعة، وهي تحظى بالدعم المالي والإمدادات البشرية والعسكرية، مما يسمح لها بخوض معارك كبرى مع الجيش النظامي. كما تتمتع بالتنظيم المحكم القائم على التقسيم الوظائفي للعنصر البشري والقدرة على التكيف مع مختلف الوضعيات والصعوبات. ويشرح الجورشي المشكلة من زاوية أخرى، وهي أن المناطق المحررة «وفرت ما يشبه المناخ الملائم لخوض تجارب حياة مختلفة للقادمين من دول كثيرة». ويقول: «يذكر البعض أن هناك ما لا يقل عن حاملي سبعين جنسية صهرتهم أرض المعركة، ووحد بينهم «يوتوبيا» الحلم بدخول الجنة أو « تغير التاريخ» . فأرض «مفتوحة» مثل هذه من شأنها أن تجلب الشباب القلق في البلاد الغربية، والباحث عن نمط مختلف للسلوك الاجتماعي، والساعي نحو نماذج «تحرره» من أزمة الهوية التي تعاني منها في مختلف البلدان الأوروبية والغربية التي تمر حاليا بأزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية صعبة ومعقدة. يختم الجورشي كلامه بالقول أن أمان التجربة دافع آخر لهؤلاء المقاتلين للذهاب إلى سوريا ويقول: «كما تعتبر هذه المغامرة إلى حد ما مؤمنة العواقب. ولا يعود ذلك فقط إلى سهولة دخول الأراضي السورية عن طريق تركيا المناهضة لنظام دمشق، وإنما أيضا بسبب غض الطرف من قبل الحكومات الأوروبية نفسها على الشبكات الميسرة لالتحاق هؤلاء بالجبهة السورية، وذلك طيلة المرحلة السابقة من النزاع». * التجنيد الإليكتروني والحملات المضادة * من جهة أخرى، ومع تنامي القلق الأوروبي من تزايد أعداد المقاتلين، بدأت الولايات المتحدة الأميركية منذ ديسمبر الماضي بالتحرك لتقليل تزايد الأعداد، وذلك من خلال إطلاق برنامج «بايلوت» على شبكة الانترنت، الهدف منه التصدي لحملات التجنيد التي يطلقها تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية والمسلحة إليكترونيا. ونشرت «نيويورك تايمز» في الرابع من ديسمبر الماضي تصريحا على لسان مسؤول في الخارجية الأميركية أن حملة «بايلوت» ستكون مضادة للتغريدات على موقع «تويتر» وللمقاطع المرئية المترجمة التي يصدرها تنظيم القاعدة والجماعات التابعة والمرتبطة به. وحسب المصدر فإنه بعد ثلاث سنوات من المتابعة من قبل محللين في مكتب الخارجية الأميركية، وجد أن الفئة العمرية المستهدفة من قبل الجماعات المسلحة هي من 18-30 سنة، وغالبا ما تكون في منطقة الشرق الأوسط. ويقول الدكتور فايز الشهري الباحث في الإعلام الإلكتروني والجديد : «إن التجنيد الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي او المدونات أو المواقع على الشبكة العنبكوتية بات أسهل بكثير مما سبق، وذلك أن ما يسمى بالجيل الثالث من المقاتلين في الجماعات المسلحة نشأ مع التقنية وأصبح مرتبطا بها أكثر، لا سيما أن الأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت شعبية ومنتشرة». ويضيف «مواجهة حملات التجنيد الإلكترونية التي تقوم بها الجماعات المسلحة ضعيف وسيبقى ضعيفا، والسبب هو أن الأجيال الجديدة من المقاتلين أو الراغبين في الانضمام للجماعات المسلحة نشأوا مع التقنية وبين أحضانها، ولهذا فهو ينتقل من موقع لآخر ومن شبكة اجتماعية لأخرى في الوقت الذي يتعرض لعشرات الرسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة، وخصوصا أن هذه الجماعات الإرهابية والمسلحة تقوم بإسقاط الآيات والأحاديث مع مؤثرات صوتية لكسب التعاطف والتأثير في العاطفة قبل أي شيء آخر». وعن سهولة تجنيد الغربيين من قبل الجماعات المسلحة والناطقة بالعربية يقول إن «التجنيد يبنى على أساس العاطفة أولا ومحاولة استدرار عطف المسلمين الأوروبين وتصوير أنهم يعيشون في عزلة عن النسيج الاجتماعي للدول الأوروبية التي يعيشون فيها، مما يحفزهم على الخروج والعيش في بيئة (أخوية إسلامية)، كما يحلو للبعض تسميتها وتصويرها». هذا القلق المتنامي، والاحتياطات التي بدأت الدول الغربية وتحديدا دول القارة الأوروبية باتخاذها للحد من تزايد أعداد المسلمين الغربيين الذاهبين إلى سوريا بغية الانضمام للجماعات المسلحة، يعطي دلالات على عدم قدرة أجهزة مكافحة الإرهاب والمتخصصين في كثير من الدول المتضررة من العنف والتطرف على وقف حملات التجنيد الإلكتروني، والاستعاضة عن ذلك بالتشديد ومحاولة مراقبة من ينوون السفر إلى دول ذات حدود متاخمة لمناطق الصراع في العالم. كل هذا يتيح الفرصة أمام التساؤلات عن مدى احتمالية زيادة أعداد المقاتلين المسلمين الغربيين في تلك الجماعات، وهل سيؤدي هذا التزايد إلى وجود قياديين من دول غربية في تنظيم القاعدة والجماعات التابعة له في المستقبل؟

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

$
0
0
مع قلة الأقلام التي تناولته بعمق، وبسببٍ من أهميته التاريخية والثقافية، ظلّ موضوع هجرات أهل الجزيرة العربية - شمالا نحو العراق وبلاد الشام وفلسطين وتركيا وآسيا، وشرقا نحو شبه القارة الهندية وجزر الملايو، وغربا نحو أفريقيا وأوروبا وأميركا، وتواصلهم الثقافي والاجتماعي مع شعوب تلك الجهات - ظل يستأثر ومنذ سنوات بحيّز من تفكير كاتب هذا المقال واهتماماته، وكانت مسألة الصلات مع جنوب شرقي آسيا استثناءً وحيدا خصّته بعض الكتابات القديمة والحديثة في التراثين الإندونيسي والحضرمي، وهي الصلات التي تمثّلت في الهجرات الحضرمية القديمة إلى جزر (أرخبيل) الملايو، وفي بعثات أُوفدت للدعوة والدعاية في تلك النواحي لأغراض دينية وسياسيّة. والمقصود ببلاد الملايو هنا هي تلك المنطقة التي أصبحت سياسيّا بعد نيلها الاستقلال تعرف بإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وما حولها. لكن المقال لن يعرض للصلات الدينية والثقافية بين بلاد الحرمين الشريفين (الحجاز) وبلاد الملايو، على اعتبار أن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا ومنذ البعثة المحمدية على صلة بشرية وروحية بكل بلدان العالم الإسلامي دون استثناء. تمثّل هجرات الحضارم إلى جزر الملايو - عند الحديث عن علاقات العرب مع بلاد الشرق - الصلات الأوثق والأقدم والأوسع، وهي صلات ينسب لها الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا مرورا بالهند، وقد كتب الكثيرون من مثقفي حضرموت وبلاد الجاوة عن هذه الظاهرة ومظاهرها وجوانبها الاجتماعية والتراثية والاقتصادية والثقافية، وأُلّفت العشرات من الكتب وأُنتجت أفلام توثيقية عنها، تحدثت عن أن الحضارم الموجودين في المهجر الشرقي والشمالي والغربي يزيدون عددا عن أهلهم في الوطن الأصلي، وتحدثت عن قدرة بلاد الجاوة على استيعاب تلك الهجرات والتعايش الفريد بين مختلف الثقافات والأعراق. وحضرموت اليوم - التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون وتمثّل إحدى المحافظات الجنوبية لليمن ومن أبرز مدنها وموانئها المكلا (العاصمة) والشحر وتتبع لها جزيرة سقطرى - كانت تشكّل أكبر من ذلك جغرافيّا وتاريخيّا، وقد هاجر جزء كبير من أهلها نحو الشمال وبخاصة نحو المملكة العربية السعودية، ونحو الشرق عبر البحر الأحمر إلى زنجبار وإثيوبيا والصومال ومدغشقر. ولا توجد معلومات مؤكدة عن بدايات الهجرات الحضرمية إلى أرخبيل الملايو، لكن من المرجّح أن تكون بدأت في أثناء القرن الثالث الهجري (الثامن الميلادي) وهناك كتابات تذكر أن هجرات الحضارم بدأت تتجه شرقا نحو الهند ومنها إلى بلاد الجاوة قبل ظهور الإسلام، وتقول بعض المصادر إن أفرادا من طبقة السادة العلويين كانوا طلائع المهاجرين في العهود الإسلامية ثم لحقت بهم طبقات أخرى، وقد انتقلت تلك الخصوصية من «الطبقيّة الحضرمية» إلى المنازل الجديدة في جنوب شرقي آسيا (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وجنوب الفلبين وتايلاند وبورما) وتنتشر الأكثرية من الأصول الحضرمية اليوم في جاكرتا (بتافيا) وبعض المدن الإندونيسية. وإذا ذكرت الهجرات الحضرمية إلى شرق آسيا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أمران: انتشار الإسلام عبر السلوك، وحسن التعامل في النشاط التجاري، لكن الواقع أن فئات من المهاجرين انهمكت في ممارسات حزبية سياسية وتكتّلات دعوية، وأصدرت تبعا لذلك في الثلث الأول من القرن الماضي نحو عشرين صحيفةً ومجلة ناطقة باللغتين الجاوية والعربية كما سيأتي تفصيله لاحقا. ويبدو أن تلك الممارسات التي اتسمت بشيء من الفوضى وانضمّت إليها عناصر من جنسيّات عربية أخرى، قد شوّهت السمعة العالية للجنس الحضرمي عبر العصور، وذلك بظهور فريقين متنافرين هما العلويون والإرشاديون، وكان لكل فريق توجهات سياسية وعرقية وعقدية متباينة بلغت ذروتها في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وقد توسّط فيها عدد من الغيورين من مشايخ حضرموت ومن الملك عبد العزيز، ثم بدأت بالانحسار مع تطوّر النظام السياسي الديمقراطي في تلك الدول، مما ساعد على ظهور زعامات محلية وأخرى ذات جذور عربية كان لها نصيب وافر من الوصول إلى المناصب القيادية العليا في تلك الدول، وكان من الصحف التي صدرت بالعربية؛ «المعارف» (إندونيسيا 1927 م) و«حضرموت» (جزر الهند الشرقية 1924م) و«الجزاء» (سنغافورة 1934 م). لقد كتب الكثير - وبخاصة من مثقّفي حضرموت - عن الوجود العربي في تلك الأرجاء عبر القرون سواء من قبل المستوطنين الحضارم أو ممن لحق بهم من الوافدين العرب، وفصّل الحديث عن النشاط السياسي والدعوي والإعلامي لتلك الجاليات، وكان من أبرز من تناول هذا النشاط - من غير الكتّاب الحضارم - الباحث الكويتي يعقوب يوسف الحجي في كتابه عن سيرة المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد (صدر عام 1993 م) والأكاديمية الكويتية نوريّة الرومي في كتابها عن حياة الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي (صدرت طبعته الثانية عام 1993م) ودكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلّفه عن سيرة الداعية السوداني أحمد محمد السوركتّي (2000 م). ومع دخول مملكة الحجاز في الحكم السعودي عام 1924م نشطت الدعايات المعادية للسعودية في كل من جزر الملايو والهند ومصر في ظاهرة امتدّت نحو عشرين عاما، وقد أسهمت تلك الدعايات - مقرونةً بتأثّر أوضاع الاقتصاد العالمي بإرهاصات الحرب الكونية الثانية - في امتناع كثير من حجاج الجاوة والهند عن القدوم للحج، متأثرين بما كان يقال عن تردّي الأمن. وهنا بذلت أجهزة الحكومة السعودية جهودا متوالية لمواجهة الموقف، كان منها إنشاء مديريّة للدعاية للحج تابعة لوزارة الماليّة، وإيفاد مبعوثين إلى تلك البلدان، وبخاصةٍ بلاد الملايو (الجاوة) وشبه القارة الهندية ومصر، من بينهم شخصيّات سعودية وعربية موالية للعهد الجديد في الحجاز، ولديها اقتناع بسلامة نهجه العقدي. وقد انهمك بعض هؤلاء الموفدين - على غرار من سبقهم من الحضارم - في الصراعات السياسية والطائفية والدينية، وكان منهم الكويتي عبد العزيز الرشيد، والداعية السوداني أحمد السوركتّي، والإعلامي العراقي يونس بحري، والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، الذين كانوا ممن أوفدوا في تلك المهمّات واستوطنوا بلاد الملايو في الثلث الأول من القرن الماضي، وأصدروا مجموعة من الصحف العربية هناك، كان منها صحيفة «التوحيد» وصحيفة «الكويت» و«العراقي» و«الهدى» وغيرها. وباستعراض ما كتب عن موضوع هذه البعثات الدعوية والإعلامية، يُلاحظ أنه لم ينل من المراجع المحلية السعودية ما يستحقّه من اهتمام، وقد سبق لكاتب هذا المقال أن تناوله من جانبه الإعلامي، بينما خصه د. محمد الربيّع ببحث من زاويته الثقافية وقد أسماه المهجر الشرقي. ولئن عُدّت هجرات الحضارم ورحلاتهم نحو بلاد الملايو من أقدم الهجرات العربية وأشهرها، فإنها في الواقع كانت نموذجا لهجرات أخرى خرجت من الجزيرة العربية، ومنها على سبيل المثال: 1 - هجرات أسر حجازية وعسيرية من أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وأبها وما حولها إلى تركيا، وكانت إما هجرات ورحلات من نوع طبيعي بسبب التبعية السياسية للدولة العثمانية، أو من نوع تهجير قسري مما عرف باسم «السفر برلك»، ومارسته تركيا كارثيّا مع العديد من أهالي المدينة المنورة بُعيد تشغيل الخط الحديدي الحجازي عام 1908م الذي اسُتخدم في عملية تهجير أخلت المدينة المنورة من معظم أهلها الأصليين، وهناك تهجير مارسه الأتراك عنوةً ضد السعوديين وذلك بعد تدمير الدرعية سنة 1818م. 2 - ومن الهجرات والرحلات والصلات بنوعيها التجاري والثقافي، التي حظيت بشيء من الكتابات والتوثيق خلال العقود القليلة الماضية، هو ما اصطلح عُرفا على تسميته «تجارة العقيلات» وهو نوع من الرحلات على ظهور الجِمال والخيل، كان يقوم به مئات النجديين بغرض التجارة مع العراق وبلاد الشام، وإلى فلسطين ومنها إلى مصر والسودان قبل فتح قناة السويس وبعده، وأدت تلك التجارة إلى استقرار بعض أفراد هذه الجماعات في تلك البلدان ومن ثمّ إلى التزاوج مع أهلها، مستفيدة من الفرص التعليمية المتاحة في تلك النواحي. وعلى الرغم من تكاثر الكتابات التي دوّنت تلك الرحلات مؤخّرا، فإنها لم تفلح في التوصّل إلى معلومات قاطعة حول سبب التسمية، وهل هي من عقْل الإبل أي ربطها، أم من لبس العقال في مقابل الحرّاس من الترك الذين يلبسون الطرابيش، أم نسبة إلى قبائل «بني عقيل» التي كانت لها الغلبة والإمارة في شرق الجزيرة العربية وفي نواحي الموصل مدةً من الزمن، وكان بعض أفرادها يقومون بحراسة القوافل نظير أجر؟ كما لم تفلح في تسجيل البدايات الزمنية لتلك الهجرات والرحلات، حيث من المعتقد أنها بدأت في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثم تقلّصت وتلاشت مع انتشار استخدام السيارات عند منتصف القرن العشرين، بمعنى أنها ربما استمرت نحو قرنين من الزمان. كما لم تفلح الكتابات في تحديد حقيقة أهدافها السياسية، إذ إن المتداول عرفا في نجد أن نشاط العقيلات كان يقتصر على الأغراض التجارية ثم الثقافية والاجتماعية، وكانت تركز على بيع الإبل والخيل وتجلب الأقمشة والتوابل والبضائع الحديثة، بينما تذهب بعض المصادر إلى ذكر أدوار سياسية وعسكرية كانت تقوم بها. ولم تؤكّد الكتابات بعدُ حقيقة ارتباط أسباب هذه الهجرات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، خاصةً إذا ما ثبت اقتران ظاهرة العقيلات مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي (بداية الدعوة). ومهما تكن نتيجة تلك التساؤلات، فإن تجارة العقيلات كانت تمثّل في زمنها ظاهرة اجتماعية في شمال إقليم نجد وبالأخص في بلدات القصيم وحائل والزلفي، ظاهرةً ما تزال حكاياتها تُروى وتُستعاد في المجالس، شارك فيها مئات الأسر والأعيان ممن رصدت الكتابات والمدوّنات قوائم بأبرز أسمائها، وعملت مدينة بريدة بالقصيم مؤخّرا على تسمية معالم تجارية باسمها، وهي المدينة التي اشتهرت مع ضواحيها بخروج أغلب رجالات العقيلات منها. وغير بعيد عن هجرات العقيلات - وربما من آثارها، لكنها كانت أكثر منها استقرارا وتوطّنا - هجرات النجديين إلى بلدات جنوب العراق والزبير بوجهٍ أخص، حيث تقاطرت أسر كثيرة من سدير والزلفي والقصيم واستوطنت فيها في القرنين الماضيين وربما من قبل جاعلةً من الزبير مدينةً نجديةً صِرفة، ثم بدأت تلك الأُسر بالعودة مع تقلّب الأوضاع في العراق في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وفي المقابل ازدهار الحياة في المملكة العربية السعودية. ومثلما قيل عن ظاهرة تجارة العقيلات، وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن تاريخ مدينتي البصرة والزبير، إلا أنها لم تجب عن أسئلة ضبابية عن بدايات تلك الهجرات ودوافعها الحقيقية، غير تلك التي تعزوها إلى حالة الفقر التي كانت تعم نجدا في تلك الحقبة. 3 - أما النموذج الثالث من تلك الهجرات فإنها هجرات أهل الجزيرة العربية نحو الهند، وهو موضوع كتب عنه القليل جدا مع أن المعلومات المتناثرة تؤكد وجود تواصل واضح بين أهل الأحساء ونجد وعسير وبلدان الخليج عامة مع شبه القارة الهندية، كما تشير كتب التاريخ إلى الممالك العربية التي أقيمت منذ القدم فيها، والمقصود بشبه القارة الهندية هنا تلك المنطقة من جنوب آسيا التي كانت تضم الهند والباكستان وبنغلاديش قبل انفصالها عام 1947م. وبين أيدينا سيَر وتراجم للعشرات - وربما للمئات - من الشخصيّات والأسر الأحسائية والنجدية والعسيرية، وبالتأكيد الحجازية، التي درست واستوطنت ومارست التجارة أو تلقّت تعليمها في الهند وبقي بعض أفرادها إلى الآن، إلا أن تلك المعلومات لا توضّح البدايات والدوافع لتلك الهجرات، التي كانت - على الرغم من بُعد المسافة ومخاطر الإبحار - تنطلق من سواحل الخليج واليمن وعدن، كما توجد أمامنا سير عدة لأُسر امتهنت الغوص وكانت لديها سفن مجهّزة للتجارة مع مدن الهند الساحلية، وقد ارتبطت مع المجتمع الهندي بعلاقات ثقافية وبمصاهرات، وتتحدث الوثائق التاريخية القديمة بكثرة عن واحد من هؤلاء البحّارة وهو أحمد بن ماجد بن محمد السعدي النجدي (821 هـ - 906 هـ) المنسوب إلى رأس الخيمة، وهو بحسب ويكيبيديا «ملاح وجغرافي عربي مسلم، برع في الفلك والملاحة والجغرافيا وسماه البرتغاليون (بالبرتغالية almirante‏ ومعناها أمير البحر) ويلقب بمعلم بحر الهند، وهو ينتسب إلى عائلة من الملاحين، كتب العديد من المراجع، وكان خبيرا ملاحيا في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين، ويتمتع بأشهر اسم في تاريخ الملاحة البحرية لارتباطه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام ابن ماجد بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف الطريق الجديد الموصل إلى الهند، وله الفضل في إرساء قواعد الملاحة العالمية، وبقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج وبحر الصين حتى سنة 903 هـ وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة». انتهى. أما في عصرنا الحديث، فصدرت كتب عدة من بلدان الخليج تتحدث عن الملاحة والغوص، ومن بين من تذكرهم الوثائق المتأخرة اسم النوخذة عبد الله بن عيسى الذوادي (شيخ الذواودة من بني خالد) الذي عاش بين عامي 1855 و1943 م واحترف التجارة بين البحرين والهند عبر امتلاكه سفنا عدة. وهناك العشرات من الأسر النجدية التي هاجرت واستقرت في الهند في القرن الماضي ومنها الفضل والقصيبي وآل السليمان الحمدان والسديراوي والقاضي والبسام، وقد ظهر منها عشرات الشخصيات التي تلقت تعليمها في الهند وتولّت مناصب إدارية متقدمة في المملكة العربية السعودية في فترة تأسيسها بخاصة، وهو ما يشي بالتأثير الثقافي الهندي على بلدان الجزيرة العربية في القرن الماضي ويتطلّب جهدا بحثيّا مكثّفا، وكانت ندوة عقدت قبل عامين على هامش معرض الكتاب بالرياض عن العلاقات الثقافية السعودية الهندية، في حين نشرت صحيفة «الرياض» (في عددها 15691 بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2011م) بحثا مستفيضا عن دُور السجلات الهندية في نيودلهي ومومباي وغيرهما، وفيها آلاف الوثائق عن الدولة السعودية في عهودها الثلاثة وعن الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الجزيرة العربية والهند بانتظار من يواصل البحث والتنقيب فيها. ولا بد هنا من الإشارة إلى المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبات الهندية، وإلى الدور الذي كانت تقوم به المطابع الهندية في حيدر آباد وغيرها لطبع كتب التراث العربي بإشراف مثقفين مهاجرين أقاموا فيها من أمثال الشاعر خالد الفرج وغيره، وكان وكلاء الملك عبد العزيز في الهند وفي مصر يقومون بطبع كتب تراثية على نفقته، وقد نوقشت مؤخرا رسالة ماجستير مسجلة في جامعة الإمام عن العلاقات الثقافية العربية الهندية، وكانت المجلة الثقافية التي تصدر عن جريدة «الجزيرة» السعودية نشرت (في عددها رقم 403 بتاريخ 18/ 4/ 2013 م) بحثا من إعداد إبراهيم المديهيش تضمّن أسماء خمسة وثلاثين شخصية نجدية درست في الهند، ومن ضمنها مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وكان من طريف ما نشر مؤخّرا في هذا الشأن (في العدد 413 بتاريخ 28/ 9/ 2013م من المجلة نفسها) معلومة عن مخرج هندي من أصل سعودي اسمه إبراهيم حمد العلي القاضي من أُسر مدينة عنيزة التي هاجرت إلى الهند، وهو يُعدّ هناك من كبار المخرجين المسرحيين وأكثرهم تأثيرا خلال القرن العشرين، وقد أُطلق عليه - بحسب ويكيبيديا - الأب الروحي للمسرح الهندي الحديث، إضافة إلى كونه رساما ومصوّرا مهتما بالتراث والثقافة والمقتنيات والصور النادرة، وأستاذا بارزا للدراما في الهند تتلمذ على يديه بعض كبار الممثلين ونجوم السينما، ومؤسسًا لعدد من المؤسسات الثقافية، وأحد أهم الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخ الهند الحديث، كان والده أحد تجار نجد، الذين قضوا حياتهم في التجارة متنقّلا بين باكستان والهند وتركيا والكويت ولبنان، ثم استقر فترة من الزمن في الهند حيث ولد ابنه إبراهيم عام 1925م في مدينة بونا قرب مومباي، وقد تزوج إبراهيم من مصمّمة هندية تدعى روشان شاركت في تصميم أزياء مسرحياته، وأنجبا آمال وهي مديرة الكلية الوطنية للدراما حاليا، وفيصل ويعمل كذلك في الإخراج المسرحي. وعودا على بدء؛ فباستثناء الكتابات التي تناولت الحالة الحضرمية في بلاد الملايو، تبقى هجرات أهل الجزيرة العربية قديما نحو الشمال والشرق والغرب بحاجة إلى المزيد من البحث والاستكشاف. * محاضرة ألقيت في منتدى الرحمانية السنوي بمحافظة الغاط في السعودية، الخميس 9/ 1/ 2014

«أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي! «أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي!

$
0
0
أكد خبراء أمنيون واستراتيجيون لـ«الشرق الأوسط» أن جماعة أنصار بيت المقدس تمثل تحولا خطيرا في أسلوب الأعمال والجماعات الإرهابية التي شهدتها مصر على مدار تاريخها الحديث، لما شهدته الفترة الأخيرة من أعمال عنف وإرهاب غير مألوفة ومختلفة عما كان يحدث من عمليات إرهابية سابقة. فقد اتسمت العمليات الإرهابية الأخيرة في مصر بانتقال ميدانها من الأطراف في سيناء إلى داخل القطر المصري في قراه ومدنه حتى وصل إلى العاصمة القاهرة، لتشهد تفجيرات انتحارية وسيارات مفخخة لم يعهدها المصريون حتى في أصعب فترات الإرهاب التي مرت بها مصر. لذلك، أصبحت جماعة أنصار بيت المقدس، التي اعترفت بمسؤوليتها عن تلك العمليات الإرهابية، مثار جدل كبير على الأصعدة كافة، لا سيما مع تزامن نشاطها مع سقوط الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما أثار الاتهام بوجود علاقة ما بين الجماعتين، بل ذهب البعض إلى أن جماعة أنصار بيت المقدس ما هي إلا ميليشيات تتبع القيادي الإخواني خيرت الشاطر. ولا شك في أن هناك تساؤلات كثيرة حول جماعة بيت المقدس وحقيقتها، وهو ما نحاول البحث عن إجابات له مع الخبراء والمحللين. الخبير الاستراتيجي اللواء عبد الرافع درويش رئيس حزب فرسان مصر، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «نقطة التحول في جماعة أنصار بيت المقدس عندما تولى الرئيس السابق محمد مرسي، حيث كان يدعمهم ويرسل لهم سيارات في سيناء، وأنهم كانوا يسعون لما يسمى غزة الكبرى التي تضم سيناء حتى العريش وغزة على مساحة الـ700 كم، ضمن الخطة الأميركية الصهيونية، ومعها بعض دول المنطقة، كبديل استعماري جديد لحل مشكلة إسرائيل، وذلك في إطار نظرية الشرق الأوسط الجديد التي كشفت عنها كوندوليزا رايس، وهو ما وافق عليه الرئيس المعزول مقابل 25 مليون دولار التي يسأل عنها أوباما الآن. ولذلك، فأنا أعد ما حدث يوم 3/7 من عام 2013 نصرا يشبه نصر 1973، لأننا استرددنا فيه سدس الأرض المصرية التي باعها (الإخوان)». ويضيف درويش أن «ليبيا كانت المقر الرئيس لـ(الجهاد) وجماعة بيت المقدس، وكانت هناك سيارات تحمل شبابا ما بين 25 - 35 سنة من مرسى علم بمصر إلى مصراتة بليبيا لتدريبهم هناك بهدف إنشاء جيش حر على شاكلة (الجيش الحر) بسوريا ليحل محل القوات المسلحة المصرية، وتزامن ذلك مع ما قاله عاصم عبد الماجد بإنشاء شرطة في أسيوط تكون موازية لوزارة الداخلية المصرية، وذلك في إطار خطة شاملة للسيطرة على الدولة المصرية». وأضاف أن «المشكلة بدأت في أعقاب ثورة يناير، حيث لم يكن هناك أي حزب منظم في مصر إلا جماعة الإخوان، خاصة أن الثورة كانت بلا قيادة. وتنظيم الإخوان هذا تنظيم دولي، مصروف عليه 45 مليار دولار لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير وإحداث الفوضى الخلاقة للقضاء على الجيوش العربية، لضمان عدم القدرة على الوقوف أمام إسرائيل وتحقيقا لأمنها. وتأكيدا لذلك، نرى المخطط واضحا على الخريطة العربية؛ بداية من الصومال في الجنوب، ووصولا لموريتانيا غربا حيث نجد سيطرة للإخوان المسلمين، ثم الجزائر قبل سيطرة الجيش، وبعدها المغرب نجد أن رئيس الحكومة من الإخوان المسلمين رغم أنها ملكية، ثم تونس وليبيا، كذلك من الإخوان المسلمين، ثم مصر قبل أحداث الثلاثين من يونيو (حزيران)، واليمن وسوريا، ثم العراق وبدءوا أيضا بإثارة الفتنة بين السنة والشيعة تحت اسم الهلال الشيعي الذي يجمع سوريا والعراق ولبنان وإيران. ومن الغريب أن إيران الشيعية تدعم حماس السنية لتكون هي الشوكة في ظهر مصر وتعد هي الجناح العسكري للإخوان المسلمين، وفي الوقت نفسه يعملون على خلق ما يسمى الهلال السني لإحداث الفتن والمعارك الداخلية لإنهاك الجيوش العربية». واستطرد أن «جماعة بيت المقدس لم تجر عملية واحدة ضد إسرائيل منذ تولي (الإخوان)، وكذلك لم يحدث أي تفجير لخط الغاز المصري بسيناء أثناء حكم (الإخوان)، بينما بدأ العمل ضد القوات المسلحة المصرية عندما قرر الفريق السيسي هدم الأنفاق بيننا وبين غزة». وعن دخول الإرهاب إلى القاهرة والمدن بعد سيناء، قال اللواء عبد الرافع درويش: «إنهم هربوا من سيناء بعد زيادة الضغط عليهم من قبل الجيش، وأصبحت آخر أوراقهم العمليات الانتحارية وتفجير النفس، وهي مؤشر على قرب نهاية هذه الجماعات الإرهابية، لأن ذلك آخر ما يمكن عمله عندهم، بعد أن فقدوا حب الحياة تحت تأثير وصولهم لمرحلة اليأس. ويجب أن نعلم أنه لا توجد دولة في العالم تستطيع أن توقف الإرهاب بنسبة 100 في المائة، لكنه سيجري تجفيف منابع الإرهاب لأقصى درجة، إلا أن المعركة ستطول لبعض الوقت، وعلى الشعب أن يقبل تحمل الخسائر ويقدم بعض التضحيات. فهذه الجماعة تحاول جر الجيش لحروب جانبية، ويبدو كأنهم هم الذين يحاربون دولة الإرهاب وليس العكس». ويشير اللواء درويش إلى «لجوء هذه الجماعة لتغيير أسلوبها بعد محاصرتها وتضييق الخناق عليها؛ حيث أصبحوا يلجأون لخطف الأشخاص وطلب الفدية للحصول على موارد كما فعلوا وخطفوا الدكتورة نادية الأنصاري أستاذ الكبد وطالبوها بفدية ثلاثة ملايين جنيه. ونحن الآن في حالة حرب، وهي تعني أن من يرفع يده بأي شيء يموت، وضرورة تحقيق العدالة الناجزة السريعة، فما دامت هناك قرائن وأدلة فلا بد من صدور أحكام سريعة. ومن ثم، لا بد لرئيس الجمهورية أن يعلن حالة الحرب بكل شروطها وقوانينها، كما أطالب الحكومة المصرية بأن تتوجه إلى حماس الذين أعلنوا الحرب ضدنا وركبوا السيارات البيضاء ذات الدفع الرباعي وعليها علامة (الإخوان)، لترى هؤلاء الناس وتضربهم هناك قبل أن أنتظر ليأتوا ويضربوا أولادنا، كما فعل أنور السادات في معمر القذافي عندما شتم مصر وأعلن الحرب علينا، فأرسل إليه طائرات تضربه، وساعتها قال السادات: (ولادي يؤدبون الولد المجنون اللي هناك)، قاصدا القذافي دون أن تعترض دولة واحدة في العالم. فجماعة بيت المقدس تغيرت 180 درجة وتحولت من مقاومة الاحتلال ونصرة بيت المقدس إلى محاربة مصر». من ناحية أخرى، كشف القيادي الإخواني المنشق أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «أنصار بيت المقدس» جماعة ناتجة عن تزاوج بين مائة عنصر من عناصر ألوية الناصر صلاح الدين وعناصر جماعة التوحيد والجهاد التي كانت تدعى سابقا «التكفير والجهاد». وأوضح أن «(ألوية صلاح الدين) كانت تستهدف إسرائيل وتطلق الصواريخ عليه، حتى دخلت حماس في التهدئة مع الإسرائيليين وتحفظت كيانات كانت تمارس المقاومة ومنها (ألوية الناصر صلاح الدين)، حيث خرج منها 100 عنصر اعترضوا على التهدئة وقرروا نقل المعركة من غزة إلى سيناء، وتسللوا إليها ليرتبطوا بجماعة التوحيد والجهاد التي غيرت وجهتها من التكفير للتوحيد أثناء وجود بعضهم داخل السجون في أعقاب حادث طابا وشرم الشيخ عام 2004، وعندما تلاقيا معا كونا جماعة أنصار بيت المقدس التي تنتمي إليها (كتائب الفرقان) إحدى أذرعها التي تمارس العنف بتقنيات أعلى، من خلال استخدام أسلحة الـ(آر بي جي) والطائرات، وهي التي استهدفت محطة القمر الصناعي بمنطقة المعادي في القاهرة». وحول طبيعة العلاقة بين «أنصار بيت المقدس» وجماعة الإخوان، أوضح أحمد بان أنه «بصرف النظر عن وجود صلات عضوية صارمة وواضحة بين (أنصار بيت المقدس) و(الإخوان)، أو أن الأمر لا يعدو كونه شكلا من أشكال تلاق للمصالح بينهما في إسقاط الدولة المصرية - إلا أننا نرى أن حجم عمليات (بيت المقدس) أكبر من قدراتها كتنظيم، ليس فقط في العنصر البشري أو الأسلحة المستخدمة، وإنما هناك مسألة أخرى تتعلق بنقل هذه الأسلحة ورصد أماكن التفجير وتحديد مواعيد العمليات، ومن ثم فإن جماعة أنصار بيت المقدس تحظى بمن يحتضنها ويساعدها في استهداف الأماكن»، وهو ما عده المنشق الإخواني أحمد بان مؤشرا على وجود تعاون بين «الإخوان» و«أنصار بيت المقدس»، في إطار عملية توزيع الأدوار، مشيرا إلى أن «جماعة الإخوان تعمل على إنهاك الجيش والشرطة من خلال المظاهرات واستنزاف مقدرات الدولة من جانب، بينما تقوم جماعة أنصار بيت المقدس بالعمليات الإرهابية ليصب كله في النهاية في صالح خطة واحدة لإنهاك وإخضاع الدولة المصرية وجيشها وكسره. وهو ليس تنظيما بالمعنى، بل يتكون من مجموعات صغيرة العدد ولا توجد بينها علاقة تنظيمية واضحة بقدر ما يوجد بينها من رابط عقدي وآيديولوجي. وفي الوقت نفسه، ينفي بان وجود علاقة مؤكدة مع حماس، مشيرا إلى أن «أعضاء بيت المقدس هم ممن انقلبوا على حماس واعترضوا على التهدئة مع الصهاينة، بدليل أن حماس ضربت مسجدا للسلفية الجهادية لتأكيد احترامها لاتفاقها مع إسرائيل». وحول الجانب الأمني، أكد بان أن «الأجهزة الأمنية بحاجة إلى رسم خريطة معلومات محدثة، لأن التحدي الحقيقي هو اعتماد الأمن على خريطة لم يجر تحديثها، بعد أن طرأت جماعات جديدة على جماعات العنف الإسلامي». ولفت النظر إلى خطورة الدور الخفي للمخابرات الأجنبية، وخاصة الإسرائيلية، التي توجه جماعات العنف هذه تجاه تحقيق مصالحها، مؤكدا أن «الموساد» يخترق هذه الجماعات من خلال عناصر لواء المستعربين الذين دخلوا لسيناء منذ أربعين سنة واستوطنوا أرضها وعاشوا كسيناويين لهم بطاقات رقم قومي مصرية رغم علاقاتهم القوية بـ«الموساد». ويتوقع بان أن يستمر العنف لمدة عام كامل إضافي، مشيرا إلى أن العامل الحاسم في المسألة هو قدرات النظام الجديد في سحب مجموعة من الرافضين لإحداث توازن ونقص في حجم الكتلة الشعبية التي تمثل دعما معنويا لهذه الجماعات. على صعيد آخر، قال الدكتور عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط»، إن جماعة أنصار بيت المقدس جماعة تستخدم نفس تكتيك الجماعات التكفيرية المتأثرة بـ(القاعدة) في استخدامها العمليات الانتحارية، وأنها في ذلك تختلف عن العنف الذي كانت تمارسه جماعات الجهاد الذين كانوا يستهدفون النظام القائم، على عكس جماعة بيت المقدس التي تعد جزءا من حالة فلسطينية إقليمية مرتبطة بنموذج (القاعدة)، لا يتجاوز عددهم المائة من القيادات، لكنهم يستطيعون زيادة العدد من خلال توظيف المزيد وتجنيدهم بالمال أو الخطاب، وقد ساهمت الحالة الإقليمية أيضا وما يحدث في سوريا والعراق في دعم مثل هذه الجماعة». ونفى أيضا أن تكون هناك روابط عقدية بينها وبين جماعة الإخوان، على اعتبار أن الأولى تكفيرية لا تتردد في رفع دعاوى تكفير النظم وتبرير العنف فقهيا. أما جماعة الإخوان، فهم ليسوا كذلك حتى لو مارست قياداتهم العنف نتيجة الصراع على السلطة. وأضاف أنه «مع ذلك، فهذا لا يمنع (الإخوان) من دعمها لجماعة بيت المقدس لاعتبارات السياسة»، وقال الشوبكي إنه «في عهد مرسي، تركت جماعة أنصار بيت المقدس تمرح وتصول وتجول في سيناء، وكانت تعد ظهيرا لدعم (الإخوان)، أو لنقل إن (الإخوان) تعاملوا معها كأنها مخزون استراتيجي يمكن أن يستخدم لصالحهم لو تطلب الأمر وتركت لها حرية الحركة من خلال فتح الأبواب والمعابر. وبعد سقوط (الإخوان) والرئيس مرسي، تواصلت قيادات بمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بمصر مع جماعة أنصار بيت المقدس وقدموا لها دعما ماديا ومعنويا ولوجيستيا، وأصبح هناك ما يشبه التنسيق فيما بين (الإخوان) وجماعة بيت المقدس، فهما ليسا جماعة واحدة من الناحية التنظيمية، ولكنهما متقاربان من حيث التوظيف السياسي. ولا شك في أن هذه الجماعة تغلغلت نتيجة الاختراقات الأمنية خلال حكم مرسي، خاصة في شبه جزيرة سيناء، ولكن هناك تعامل أمني معها ومحاولات لمواجهتها». وحول الخريطة الإرهابية ومدى تغيرها في المنطقة بظهور بيت المقدس في مصر، أكد الدكتور عمرو الشوبكي أن «خريطة الجماعات المتطرفة تغيرت ولو جزئيا، والدليل مظاهر العنف الذي ما زال موجودا في سيناء، وهو يختلف عما كان يقوم به تنظيم الجهاد و(الجماعة الإسلامية) من عمليات والذين انتهي عصرهم، ولذلك لا بد من رسم خريطة جديدة للجماعات المتطرفة في مصر، على أن يبدأ التأريخ لها منذ أحداث طابا عام 2004 ليتعاظم تأثيرها مع عهد الرئيس مرسي». القيادي الإخواني المنشق خالد الزعفراني صرح لـ«الشرق الأوسط» بأن «(أنصار بيت المقدس) ما هي إلا اندماج لمجموعة من الجماعات المتطرفة التي وحدها القيادي الإخواني خيرت الشاطر للاستقراء بها»، وقال إنه «كانت هناك جماعات تكفيرية في سيناء مثل (التوحيد والجهاد) التي أسسها طبيب أسنان مصري يدعى خالد مساعد وقد قتل في مواجهات مع الشرطة وكان ضمن المشاركين في تفجيرات طابا، وقد التقى جماعة (الناجين من النار) لتكوين جماعة إرهابية في سيناء، وقد أسقطوا طائرة لمسؤول كبير في جهاز أمن الدولة بسيناء، وجرى علاجه في ألمانيا في أواخر عهد مبارك. كما كانت هناك جماعة الفرقان التكفيرية في سيناء، وهي جماعة لها نوع من الوجود في غزة وعناصرها مصريون وفلسطينيون. هذا بالإضافة إلى بعض الجماعات السلفية الجهادية التي تحمل فكر التكفير القطبي عن أتباع سيد قطب، إلى جانب بعض جماعات أهل السنة الذين كانوا يعملون كظهير فكري للجماعات التكفيرية المتطرفة، وكانت مهيأة لمدهم بأي عدد من الأفراد، ولكنهم كانوا أوشكوا على التلاشي في أواخر عهد مبارك. لكن مع ثورة يناير، عاد تيار التكفير القطبي ينتشر بسيناء والإسكندرية والدلتا، وظهروا في مختلف الأماكن، بل أصبحت لهم جمعيات مشهرة رسميا في وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية. ثم قام خيرت الشاطر بجمع هذه الجماعات تحت اسم (أنصار بيت المقدس) لجعلهم قوة داعمة لهم. وقد ظهرت السلفية الجهادية على يد مؤسسها الفلسطيني عبد اللطيف موسى الذي كان يدرس بالإسكندرية، قبل أن يعود إلى غزة وينقلب هو وبعض أنصاره على حماس حتى طاردتهم في أحد المساجد وقتلتهم، ليهرب الباقون ويكونوا جماعة أنصار بيت المقدس فيما بعد، حيث تواصل خيرت الشاطر ومحمد الظواهري وجعل جماعة أنصار بيت المقدس كلها موحدة تحت راية (القاعدة) وبرعاية الشاطر والظواهري». ولا شك في أن طبيعة التضاريس بسيناء ووجود الأسلحة القديمة من أيام الحروب في المنطقة ساعدا هذه الجماعات التي كادت تتلاشى حتى جاء حكم «الإخوان» وعادوا يتصدرون المشهد بكل وضوح، لدرجة أنهم حضروا اجتماع سد النهضة مع الرئيس مرسي قبل حضورهم جميعا مؤتمر دعم سوريا في أخريات عهد مرسي. ويكشف الزعفراني لـ«الشرق الأوسط» عن أن «الرئيس مرسي أطلق يد هذه الجماعات بشكل كبير، لدرجة أن الأوامر كانت تخرج من جماعة الإخوان لـ(الحرس الجمهوري)، وكانت هناك اجتماعات يحضرها هؤلاء المتطرفون دون أن تستطيع قيادات أمنية الدخول!». وقال الزعفراني إن الرئيس مرسي وجه له الدعوة مع كرم زهدي وناجح إبراهيم في إحدى زياراته للإسكندرية، ويؤكد أنه فوجئ بأن جماعة الإخوان هي المتحكمة وأن الأجهزة الأمنية تكاد تحضر بـ«العافية»، على حد قوله. وأوضح الزعفراني أن «الهجوم على جهاز أمن الدولة وحرق المستندات وتسريح عدد كبير من الضباط لأعمال إدارية، في الوقت الذي كان يختص فيه الجهاز بملفات العنف والتطرف، هو ما أدى إلى أن هذه الجماعات لم تعد متابعة وظهر ظهيرها الفكري على السطح، كما جرى الإفراج عن كثير من رموز التكفير. ولا شك في أن (الإخوان) أخطأوا بهذه التصرفات، فإذا كانوا يريدون احتواء الجماعات المتطرفة فما حدث هو العكس، حيث غرق (الإخوان) في أفكارهم وهو ما أدى إلى إسقاطهم». وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، أكد اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز أمن الدولة المصري سابقا، أن «جماعة أنصار بيت المقدس وغيرها من الجماعات الإرهابية جرى تجميعها بمعرفة جماعة الإخوان في عهد مرسي، وهم يمثلون تطورا خطيرا في الجماعات المتطرفة عن الجماعات السابقة، من حيث تسليحهم وخططهم وتدريباتهم واستخدامهم السيارات المفخخة والأسلحة المتطورة والصواريخ المضادة للدبابات والطائرات واللجوء للعمليات الانتحارية، ويرجع هذا التطور النوعي في الجماعات الإرهابية إلى حكم (الإخوان)، لأنهم فتحوا قنوات مع حماس ومع التنظيمات الإرهابية في غزة ومع (القاعدة) وأفغانستان». ويؤكد علام أن فترة الانهيار الأمني التي حدثت في ثورة يناير ولمدة أكثر من عام، حسب قوله، هي السبب في فتح الحدود وزيادة التهريب، وقال إنه «خلال عهد مرسي، كان يجري منع سلطات الأمن من اتخاذ أي إجراءات ضد الإرهابيين، كما حدث عندما أوقف العملية (نسر) في سيناء، كما ساهم غياب المعلومات وتوقف اختراقات أجهزة أمن الدولة لهذه الجماعات في زيادة استفحال خطر الإرهاب وظهور جماعات مثل بيت المقدس وغيرها، لأنها ليست وحدها التي تمارس الإرهاب، فهناك جماعات كثيرة تحتاج لمواجهتها بمنظومة متكاملة لا تقتصر على الأمن فقط، بل تتضمن أيضا المحور السياسي والثقافي والإعلامي والديني والاجتماعي، ويأتي الجانب الأمني في النهاية، وعندما تكتمل هذه المنظومة يمكن القضاء على الإرهاب ونختصر وقتا طويلا في مواجهته، أما لو ترك الأمر للأمن فقط، فلن يقضى على جماعة أنصار بيت المقدس وغيرها، وربما ستزداد الحالة سوءا». * اللواء فؤاد علام وكيل جهاز أمن الدولة: «بيت المقدس» تطور نوعي خطير في الجماعات الإرهابية.. والاقتصار على المعالجة الأمنية يزيد الأمر سوءا.. ومرسي منع سلطات الأمن من اتخاذ إجراءات ضد الإرهابيين في سيناء * اللواء عبد الرافع درويش الخبير الاستراتيجي: تولي مرسي هو نقطة التحول في «بيت المقدس» وكان يرسل لهم السيارات في سيناء.. أطالب الحكومة المصرية بإعلان حالة الحرب وأن تفعل مع حماس كما فعل السادات مع القذافي * الدكتور عمرو الشوبكي: قيادات من مكتب إرشاد «الإخوان» تواصلوا مع «بيت المقدس» في عهد مرسي وتعاملوا معهم كمخزون استراتيجي * القيادي الإخواني المنشق وخبير الحركات الإسلامية أحمد بان: «أنصار بيت المقدس» نتيجة تزاوج مائة عنصر منشق عن حماس وجماعة التوحيد والجهاد

مائة عام من أزمة الهوية في تركيا مائة عام من أزمة الهوية في تركيا

$
0
0
في يوم بارد من شهر سبتمبر (أيلول)، في سيكتوار جنوب المجر، خطب السلطان العثماني سليمان، الذي يعرفه رعاياه بـ«القانوني»، وهو يحتضر، على حاشيته، ما اشتهر بـ«خطبة فراش الموت». كان السلطان في سبيله إلى مغادرة عالم الأحياء تاركا إمبراطورية، هي أكبر دولة إسلامية، في قمة قوتها ومجدها. اعترف أعداؤه المسيحيون بعظمته حتى أنهم وصفوه بـ«العظيم». ورغم انتصاراته العسكرية الكثيرة ونجاحاته العظيمة في إقامة إدارة ذات كفاءة، فإن سليمان كان على دراية تامة، بأن تحقيق إمبراطورية عظيمة شيء والحفاظ على وجودها بين القوى العظمى شيء آخر. أثبتت القرون التالية لوفاته، صحة مخاوفه، حيث تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى «رجل أوروبا المريض». ووضعت الحرب العالمية الأولى نهاية لهذه القصة البائسة، مع تفكك الدولة العثمانية تحت وطأة ضغوط الهزيمة الخارجية والتمرد الداخلي. أدى انهيار الدولة العثمانية، إلى ظهور 30 دولة قومية ذات أشكال وأحجام مختلفة في ثلاث قارات. بطريقة ما تَشكَل تاريخ الشرق الأوسط، وربما حتى تاريخ العالم، خلال الأعوام المائة الماضية، جراء الاهتزازات التالية لسقوط الدولة العثمانية. ما تبقى كان الظهير الأناضولي، بالإضافة إلى موطئ قدم في أوروبا في صورة إسطنبول وضواحيها. وفي العشرينات، أسس الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك) دولة تركية من بقايا الإمبراطورية العثمانية. جرى التسويق لتركيا الجديدة كدولة أوروبية آسيوية قديمة، يميزها الدم واللغة والثقافة بدلا من العقيدة الإسلامية كما كانت في عهد العثمانيين. استند عهد أتاتورك الجديد إلى إقامة نظام سياسي علماني يستقدم فيه مظاهر الديمقراطية الغربية مثل نظام الحكم البرلماني. على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، لم يحقق هذا المشروع نجاحا بنسبة مائة في المائة، ولكنه استطاع بث شعور قوي بالتلاحم بين غالبية المواطنين. * النموذج التركي بعيدا عن فرض الدولة قيودا صارمة على الإسلام، فإن النموذج التركي، يتمتع بعدد من السمات الأخرى الخاصة. تتضمن هذه الخصائص دورا خاصا للقوات المسلحة كضامن رئيس للنظام القائم. وفي محاولة لمحاكاة النظام الديمقراطي الغربي، أقام أتاتورك حزبين سياسيين، أحدهما يتبنى نبرة يمين الوسط، في حين يميل الآخر إلى يسار الوسط. ولكنه اختار جنرالين، هما عصمت إينونو وفوزي جاكماق، لرئاسة الحزبين، بينما حصل ضباط جيش متقاعدون، على نصيب الأسد في مناصب الحكومة. من سمات «النموذج التركي» الأخرى، كانت النزوع إلى المركزية. وقبل أن يستحدث رئيس الوزراء، تورغوت أوزال، مجموعة من الإصلاحات، في نهاية ثمانينات القرن الماضي، كانت حتى الشؤون الروتينية في القرى النائية، خاضعة لسيطرة الحكومة المركزية في أنقرة. دافع الكماليون عن صورة متطرفة من القومية، تضمنت ملكية الدولة وسيطرتها على أهم الموارد الطبيعية. ومن جديد استمر ذلك حتى نهاية الثمانينات عندما سُمح للاستثمارات، بما فيها الأجنبية، بتطوير هذه الموارد وتسويقها. نتيجة لذلك، أصبح سوء الأداء الاقتصادي ملمحا أساسيا في النظام التركي. وأجبر الانفجار السكاني بين فترتي الأربعينات والسبعينات من القرن الماضي، ملايين من الأتراك على الهجرة إلى غرب أوروبا، خاصة ألمانيا الغربية والشرق الأوسط بحثا عن عمل. نتج عن الفكر القومي للنظام الكمالي تبعات أخرى، إذ أجبر الجمهورية الجديدة على فتح أبوابها أمام ملايين من البشر الذين يتحدثون بصور متنوعة من اللغات التركية بعد أن طردوا من أوطانهم. وفي مبالغة في تنفيذ تقليد بدأته روسيا القيصرية، طرد الاتحاد السوفياتي ما يُقدر بأربعة ملايين تركي من الأراضي الخاضعة له؛ ذهب أغلبهم إلى تركيا. كما أُخرجت مجموعات تركية من اليونان وما كان يسمى بيوغوسلافيا في ذلك الوقت. وفي السبعينات، طرد الديكتاتور صدام حسين آلافا من التركمان من شمال العراق إلى تركيا. ووقع آخر ترحيل جماعي للأتراك في بلغاريا في عام 1989. عندما طرد الرئيس تيودور جيفكوف، أكثر من نصف مليون من ذوي الأصول التركية عبر الحدود. وفي التسعينات، فتحت تركيا أبوابها أمام ما يقرب من 400 ألف أذري لاجئ، يتحدثون لغة قريبة من التركية، قادمين من مرتفعات قرة باغ. وباتت تركيا تضم، أيضا، ما يقرب من 1.2 مليون شخص من أصول أذرية قادمين من إيران. ولم يقتصر استغلال اللاجئين في السياسة على الدول المجاورة لتركيا. استخدمت حكومات تركية متعاقبة اللاجئين من أجل تغيير التكوين الديموغرافي لمناطق متنوعة في الجمهورية. وعلى مدار عقود، أعيد إسكان قطاع عريض من اللاجئين المتحدثين بالتركية من البلقان، وبدرجة أقل من روسيا، في مناطق تركية كانت غالبية سكانها المحليين من المجتمعات الكردية أو المتحدثة بالعربية. وفي حين اعتمد أتاتورك أساسا، على دعاية وتعليم جماعي ينفيان أهمية الإسلام في الثقافة التركية، لم يتورع عن استخدام القوة لسحق المعارضين إذا لزم الأمر. على سبيل المثال، أرسل عام 1925. جيشه لوأد تمرد قروي في مهده، قاده الشيخ سعيد، الذي وصف ذاته بالخليفة الجديد المرسل من الله لإعادة سلطة الإسلام على الأرض. وفي عام 1930. أثار قرار حظر ارتداء النساء الحجاب وتربية الرجال اللحى، سلسلة من الانتفاضات في المناطق الحضرية، من بينها إسطنبول وأنقرة. ومرة أخرى، استدعت الحاجة تدخل الجيش لتهدئة الأوضاع. وحتى في ذلك الوقت، ربما كانت سياسة أتاتورك بالتخلص من مظاهر الإسلام، ستواجه صعوبات أكبر لو لم يحظ بدعم بعض الأقليات الدينية ومن بينها المسيحيون. ولكن كانت أهم المجموعات الدينية التي تدعم حركة أتاتورك العلمانية، هي الطائفة العلوية، المقتصرة على فئة خاصة متأثرة بالشيعة الاثني عشرية ولكنها مختلفة عنها. ففي مطلع عام 1923، تولى العلويون دورا بارزا في حركة (المستنيرين) وأنشأوا نوادي علمانية في المدن الكبرى. * عودة الإسلام علم خليفة أتاتورك، عصمت إينونو، وهو الآخر جنرال وأحد أبطال حرب الاستقلال، أن هذا النوع من العلمانية الذي تنشره الجمهورية الجديدة، لا يلقى قبولا كبيرا بين الجماهير من القرويين الأتراك في جميع أنحاء بلاد الأناضول. فقد ظلت المساجد مزدحمة، واستمرت النساء في ارتداء الحجاب في الكثير من المناطق. ووجد الكثير من الأتراك طرقا لافتة إلى مكة لأداء فريضة الحج. في عام 1949. حاول إينونو مد غصن الزيتون إلى الأتراك المتدينين، بتعيين الإسلامي البارز، محمد شمس الدين كُنالطاي، رئيسا للوزراء، في خطوة أثارت قلق الجيش. واتضح، بعد ذلك، أنها أولى الأزمات التي تسببت بها محاولات السماح بعودة بعض من الرؤى الإسلامية إلى السياسة التركية. وبعد عام، رفع رئيس وزراء آخر هو عدنان مندريس، قائد الحزب الديمقراطي، الحظر الذي فرضه أتاتورك على الأذان، وأمر الشرطة بعدم اعتقال من يمسك بهم في المساجد وهم يصلون باللغة العربية. وظل السؤال إذا ما كان مندريس يمتلك أجندة خفية لتقويض النظام العلماني محلا للنقاش الساخن على مدار عقود. ولكن حتى لو امتلك مثل تلك الأجندة، فمن المرجح أن دافع الحسابات الانتخابية أكبر من ارتباطه الآيديولوجي بالإسلام. في الخمسينات، في أول انتخابات عامة تشهد منافسة حرة في التاريخ التركي، رجع الفضل في التأييد الحاشد الذي حظي به حزب مندريس إلى المناطق شديدة التدين في تركيا، بينما اجتذب منافسه حزب الشعب الجمهوري، تأييد المناطق الحضرية الأكثر تَغربا. أزعجت سياسات مندريس الجيش والأوساط العلمانية الراديكالية. وفي عام 1960، قام الجيش بقيادة رئيس الأركان جمال جورسيل، بأول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية للإطاحة بالحكومة، وجرى شنق مندريس ذاته بينما ظل الرئيس المطاح به، محمد جلال بايار، مسجونا لأعوام. في الستينات، كان الاعتقاد العام بين الخبراء، هو أن الإسلام أصبح منتهيا في الحياة السياسية التركية. وفي عام 1969. رفض رئيس الوزراء، سليمان ديميرل، حضور أول مؤتمر قمة إسلامي يعقد في الرباط في المغرب. ولكن بعد أقل من عامين، بدأ ديميرل في بث أفكار إسلامية في خطابه، من أجل الفوز بالانتخابات والبقاء رئيسا للوزراء حتى انقلاب عام 1971 الذي قاده الجنرال ممدوح تاجماك. وفي حين ادعى الجيش أنه تدخل لسحق إرهابيي العصابات اليسارية، فإن كبار الضباط أعربوا أيضا عن استيائهم من مغازلة ديميرل للجماعات الإسلامية، ومن بينها حزب النظام الوطني (الذي ظهر في البداية في عام 1969 تحت قيادة نجم الدين أربكان ولكن جرى حله باتهامات معاداة العلمانية). وكانت من أقدار ديميرل، أن تجري الإطاحة به مرة أخرى، من منصب رئيس الوزراء في عام 1980، عندما وجه الجيش، بقيادة الجنرال كنعان أفرين، انتقادات قاسية للسياسي القديم لتشكيله ائتلافا ضم حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان. بعد ستين عاما من بداية الحركة الكمالية، اتضح أمر واحد: محو الإسلام من السياق السياسي والثقافي التركي ليس ممكنا. وفي الوقت ذاته، اتفق الكثير من الأتراك، ربما أغلبيتهم، بعد انزعاجهم من تجربة إيران المأساوية في ظل النظام الإسلامي، على أن تولي الإسلام القيادة السياسية يمثل خطورة كبيرة على الجمهورية التي ما زالت هشة. كان الحل هو التوسع في تنوع الأطياف السياسية، بعيدا عن الآيديولوجيات التقليدية المطروحة منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. كذلك لم يحظ المفهوم الضيق للقومية التركية، الذي دافعت عنه جماعات يمينية متطرفة مثل الذئاب الرمادية، بشعبية كبيرة، نظرا لأنه لم يتمكن من تلبية الاحتياجات المتنامية إلى رفع مستويات المعيشة. منذ الثمانينات، تطلعت بعض دوائر النخبة السياسية، وخاصة أمثال أوزال الذي امتلك رؤية استراتيجية، إلى تكوين رؤية بديلة للإسلام السياسي والقومية التركية. لم يخش أوزال من الاستشهاد بآيات القرآن في حملته الانتخابية، واختار أيضا أن يُذكِر جمهوره بأن له أصلا كرديا يرجع إلى جدته. ومن خلال معرفته العميقة بالأدب والتاريخ التركيين أثار إعجاب دوائر الناخبين المهتمين بالقومية التركية. ولكن كان أهم إسهام له في النقاش السياسي هو إثارة الحماس الوطني، وليس التعطش لتحقيق النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة. بعد إخفاق أربكان، وجدت وصفة أوزال مردودا بين جيل جديد من السياسيين الإسلاميين من بينهم رجب طيب إردوغان. فتبنوا استراتيجية تعتمد على بناء قاعدة تأييد واسعة حول البلاد على المستوى المحلي من خلال برنامج لمكافحة الفساد وتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل. كان نجاح إردوغان في منصب عمدة إسطنبول أكبر مدن البلاد التي يسكنها 20 في المائة من إجمالي السكان، انقلابا رئيسا، فقد حولت إدارته الفعّالة لشؤون المدينة وتطهيره للإدارات ونجاحه في جذب استثمارات جديدة، إسطنبول من مدينة تعاني من الانهيار إلى مدينة حديثة كبرى مزدهرة. في ظل هذا الإنجاز، لم يجد إردوغان صعوبة كبيرة في إطلاق حركة إسلامية جديدة، متمثلة في حزب العدالة والتنمية. تعني الحروف الأولى من اسم الحزب باللغة التركية «الأبيض» في إشارة إلى نية إردوغان إلى التأكيد على برنامجه في مكافحة الفساد. في الانتخابات العامة التي أجريت في عام 2002. فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 34 في المائة من الأصوات، ولكن بفضل نظام محاصصة يعطي أفضلية للفائز، حصل الحزب على أغلبية مقاعد الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان). في ذلك الوقت، استبعد كثيرون أن يكون حزب العدالة والتنمية ديناصورا باقيا من العصر الجوراسي للآيديولوجيات الإسلامية. في ظل رئاسة وزراء غُل ثم إردوغان ذاته، أثبتت الحكومة الجديدة أن هؤلاء كانوا على خطأ. توقف حزب العدالة والتنمية عن التأكيد على الآيديولوجيا التي تركز على الإصلاحات الضرورية من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتكرر الفوز الانتخابي الذي تحقق في عام 2002 مرة أخرى في عام 2007. عندما ارتفعت نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية إلى 41 في المائة، ثم في عام 2012 عندما فاز الحزب في ثالث انتخابات له بنسبة تقترب من 49 في المائة من الأصوات. من جميع الجوانب، يثير سجل حزب العدالة والتنمية في الحكومة الإعجاب. في خلال عشرة أعوام، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في تركيا ثلاث مرات. في مطلع القرن الجديد، كان متوسط الدخل في تركيا يبلغ أقل من 20 في المائة من متوسط الدخل في الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2014، اقترب هذا الرقم من 70 في المائة. وفي الفترة ذاتها، ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الاقتصاد التركي من 3.2 مليار دولار إلى أكثر من 120 مليار دولار. وبرزت الخطوط الجوية التركية، شركة الطيران الوطنية، كواحدة من أكبر الشركات في أوروبا حيث تربط بين أكثر من 200 موقع في أربع قارات. في عام 2014، وصل عدد الشركات التركية التي تدير أنشطتها في السوق العالمية إلى 15 ألف شركة. وبسرعة أكبر، نجحت تركيا في التخلص من التضخم المزمن، وحققت استقرارا في عملتها، وخفضت بحدة نسبة الدين العام. لم يتوقف نجاح حزب العدالة والتنمية عند الاقتصاد. بعد أن تبنت تركيا منهج تصفير المشاكل فيما يتعلق بعلاقاتها مع دول الجوار، استطاعت الحد من التوترات التي أفسدت سياستها الخارجية على مدار عشرة أعوام. بل واستطاعت الحد من توترات قضية قبرص، بعد أن كانت تستنزف الموارد التركية وكانت سببا لتشتيت الانتباه عما هو أهم منذ السبعينات. كما حقق حزب العدالة والتنمية إنجازات جيدة من خلال إدخال إصلاحات سياسية واجتماعية. ولكنه لم ينجح في إيجاد حل طويل الأجل لمشكلة الأكراد في تركيا. في عام 2010، عندما بدأت أحداث الربيع العربي، ظهر ما عده البعض «النموذج التركي» الذي يقدم حلا لمستقبل الدول الإسلامية التي تجاهد من أجل التحول إلى الحداثة والديمقراطية. قال الرئيس غُل فيما يشبه المزحة إن تركيا لا ترغب في أن تكون «آخر ذئب في قطيع الذئاب»، بل أن تكون «قائدا لقطيع الحملان». وأكد غُل على أن تركيا لديها واجب تاريخي بتولي القيادة في الإسلام. وكأنه يردد ما قاله شوكت كازان، أحد مستشاري حزب العدالة والتنمية السياسيين الرئيسين؛ في خطاب ألقاه كازان في إسطنبول عام 1991. قال: «لقد قدنا العالم الإسلامي لمدة ألف عام. فهل نجحنا في اختبار القيادة؟». في نهاية عام 2013. بدا وكأن تركيا على وشك دخول نادي القوى العالمية، لأول مرة منذ أربعة قرون، وكأنها تُكمل من حيث توقف سليمان العظيم. لم يكن إردوغان أول سياسي تركي تراوده أحلام الإمبراطورية العثمانية. في الثمانينات، تحدث جميل تشيتشيك، الذي كان، حينها، عضوا بارزا في حزب الوطن الأم برئاسة أوزال، عن «واجب تركيا التاريخي» بتولي قيادة «دخول الإسلام إلى العالم الحديث». ولم يتوقف ادعاء تشيتشيك بأحقية تركيا في هذا الدور عند الإشارة إلى الإمبراطورية العثمانية. * إعادة تعريف تركيا من أجل إعادة مكانة الإسلام في محور هذه العلاقة الجديدة، كان على إردوغان البدء بإعادة تعريف تركيا ذاتها. كانت الرابطة الكمالية على أفضل حال، ستسمح لتركيا بادعاء حقها في قيادة الشعوب الناطقة بواحدة من 18 لغة من اللغات «التركية» المتفرعة من اللغات الألطية. وبدا أن إردوغان مصمم على فعل ذلك بطريقتين: أولا، شجعت أجندته الكثير من الأتراك على إعادة تعريف هوياتهم كأقليات. على سبيل المثال، اكتشف أقلية الليزجينيون، ووعد بالسماح لأفرادها بتعليم أولادهم بـ«لغتهم الأصلية». قد يمثل ذوو أصول الليزيجينية وغيرهم من أصحاب الأصول القوقازية (ومن بينهم ذوو أصول شركسية وقراتشية وأودمورتية وداغستانية)، نحو 20 في المائة من السكان. ولكن نسي هؤلاء جميعا، تقريبا، أصولهم وانصهروا في البوتقة الكبرى الممثلة في الهوية التركية. فما الهدف من التشجيع على إعادة ظهور هويات الأقليات؟ في الوقت ذاته، كان إردوغان يقدم القليل للأقليات التي استطاعت الحفاظ على هويتها على مدار العقود التسعة الماضية. وتشكل أهم هذه الأقليات، الأكراد، الذين يمثلون نحو 15 في المائة من السكان. وكما أشير من قبل، يدين حزب العدالة والتنمية بالفضل في انتصاراته الانتخابية المتتالية، بقدر ما، إلى الأكراد. من دون تصويت الأكراد، لم يكن باستطاعة حزب العدالة والتنمية حصد أكثر من 40 في المائة من الأصوات. لكن برنامجه قدم للأكراد القليل جدا. ربما يسمح لهم باستخدام لغتهم، ولكن غير مسموح لهم الكتابة بحروف أبجديتهم. وكذلك لا يستطيعون استخدام حروف غير موجودة في الأبجدية اللاتينية التركية ولكنها موجودة في الأبجدية الكردية. توجد أقلية حقيقية أخرى تحظى بالقليل هي الأقلية العلوية، التي قامت بدور الداعم الرئيس للعلمانية في تركيا. في حين يستخدم إردوغان موارد الدولة من أجل دعم الإسلام السني، لا يستطيع العلويون حتى الحصول على تصاريح بناء لإقامة دور عبادة خاصة بهم. أما الأرمن، فلا يحصلون على شيء، ولا حتى على وعد بإجراء تحقيقات نزيهة في مزاعم تعرضهم لإبادة جماعية في عام 1915. بل ومن المخطط هدم الكثير من المواقع التاريخية الأرمنية باسم «التجديد العمراني»، وبخاصة في إسطنبول، حيث دشن إردوغان مشروعا بقيمة مائة مليار دولار لإقامة «عاصمة عالمية»، تضم أكبر مطار وأطول برج تجاري في العالم. العمود الثاني لاستراتيجية إردوغان، يقوم على إعادة تنشيط قاعدته الإسلامية. وفي هذا الإطار، تستحوذ مئات الجمعيات، التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون، على المساجد والمواقع الدينية والممتلكات الوقفية المملوكة للدولة – مما يمنح لحزب العدالة والتنمية قاعدة نفوذ هائلة في جميع أنحاء تركيا. قد يتضمن برنامج الخصخصة المخطط، مئات من المليارات من الدولارات، حيث تتحول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمصانع والعقارات، في أكثر من 200 بلدة ومدينة، وبنوك، وشركات تأمين، وشركات نقل، وغيرها من الشركات المخصصة لأغراض دينية على مدار مائة عام مضت، من ملكية الدولة إلى ملكية خاصة. يتخذ إردوغان من «ملاذكرد» شعارا للترويج لأجندته. تشير هذه إلى معركة وقعت بين سلطان السلاجقة ألب أرسلان والإمبراطور البيزنطي رومانوس في عام 1071، التي شهدت أول انتصار عظيم تحققه جيوش المسلمين ضد المسيحيين في آسيا الصغرى. وقعت هذه المعركة قبل قرون من وصول الأتراك العثمانيين إلى المنطقة قادمين من آسيا الوسطى. قبل كشف إردوغان عن «حزمة إصلاحاته» لإعادة تعريف تركيا باثني عشر شهرا، بدا وكأنه يتربع على قمة العالم، عالمه على الأقل. ولكن مع بداية عام 2014. يبدو وكأن إردوغان يكافح من أجل استمرار حياته السياسية، وأن «حلم الدولة العثمانية الجديدة» أصبح وهما. فما سبب هذا التحول المفاجئ؟ الإجابة قصيرة: الغطرسة. بعد أن أسكرته النجاحات التي حققتها تركيا في عشرة أعوام تحت قيادته، بدأ إردوغان يتصرف بطريقة مختلفة عن شخصيته المعهودة. كان إردوغان يدين بالفضل في نجاحه الانتخابي، إلى قدرته على تعلم الدروس الأساسية من السياسة التركية الحديثة. عندما قابلته لأول مرة في إسطنبول في التسعينات، استغرق وقتا يدافع فيه بأن السبب الجذري لتأخر التنمية النسبي في تركيا وأزمتها السياسية الدائمة تقريبا، هو تصادم الآيديولوجيات. حَوّل الكماليون مؤيدو أتاتورك تراثه من دولة علمانية إلى آيديولوجيا جامدة تتجاهل التنوع الحتمي في مجتمع معقد مثل تركيا الحديثة. وعلى الجانب الآخر من الأطياف الآيديولوجية، عد المسلمون المتدينون أن الفصل بين المسجد والدولة اعتداء مباشر على دينهم. نجحت طريقة إردوغان في التخلص من الأدلجة في تحقيق الاستقرار السياسي في تركيا (وعلى وجه التحديد منحتها حصانة من الانقلابات)، مما مهد الطريق أمام النمو الاقتصادي. وكما أشير من قبل، على مدار الأعوام العشرة الماضية، أعادت تركيا إحياء عملتها المنهارة، ووفرت أكثر من ثمانية ملايين فرصة عمل، وتراوحت معدلات النمو الاقتصادي ما بين 6 و7 في المائة، كما انضمت إلى مصاف الدول الصناعية الناشئة. الأهم من ذلك من وجهة نظر الكثير من الأتراك، استطاع إردوغان الحد من الفساد بدرجة كبيرة، بعد أن كان متفشيا في السياسة التركية. ولكن في بداية عام 2011، بدأ إردوغان يتصرف بأسلوب مختلف. في حملة آيديولوجية واضحة، بدأ في عملية تطهير للجيش والشرطة الوطنية من الضباط غير المهتمين بالدين إن لم يكونوا معادين له، ليُعين محلهم ضباطا على صلات بحزب العدالة والتنمية. ثم شن حملة تطهير للقضاء بترقية قضاة إسلاميين محل العلمانيين. وكان هدفه التالي هو نخبة الأعمال الكبيرة التي تشكلت بدعم من الجيش على مدار عقود. وبدأ في منح تعاقدات حكومية مربحة إلى أشخاص على صلات بحزب العدالة والتنمية، وكما أظهرت الاكتشافات الأخيرة، إلى أفراد في عائلته وحزبه وحاشيته من الوزراء. وكان هدف إردوغان التالي هو الطائفة العلوية، التي تشكل 12 في المائة من السكان، وكانت دائما تدعم الجمهورية العلمانية. وبعد ذلك أفسد العلاقات الجيدة نسبيا التي أقامها مع الأكراد، أيضا، بمعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وبداية من شهر سبتمبر عام 2013، أشارت استطلاعات الرأي إلى انخفاض بطيء، ولكنه مستمر، في التأييد الشعبي الذي يحظى به إردوغان وحزبه. وفي يناير (كانون الثاني) عام 2014، حصل إردوغان وحزب العدالة والتنمية على 39 في المائة فقط من أصوات الناخبين المحتملين، بعد أن كانت النسبة 48 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) 2013. ولعل الأمر الأكثر أهمية، هو أن غالبية كاسحة، 61 في المائة في يناير 2014، وافقت على رفع دعاوى قضائية ضد مئات من رجال الأعمال ومسؤولي الحكومة والوسطاء المتهمين في الكثير من قضايا الفساد، مع مزاعم بتورط أربعة أعضاء، على الأقل، في حكومة إردوغان وبعض من أفراد أسرته. كان رد إردوغان هو اتهام معارضين، لم يحددهم بالاسم، بالتآمر ضد حكومته، إلى درجة التخطيط لانقلاب عسكري. وفي يناير 2014، شن حملة تطهير واسعة للشرطة. كانت إحدى النتائج السلبية لفضيحة الفساد، هي تدهور العلاقات بين إردوغان وأحد أهم مؤيديه الإسلاميين فتح الله غولن. أنفق غولن، الذي يجمع بين زعامة جماعته على طريقة المافيا وكونه رجل أعمال، أموالا طائلة في تمويل حزب العدالة والتنمية، من خلال علاقاته في مجال الأعمال. لذلك يحمل قطع العلاقات مع غولن مخاطر دينية وتجارية بالنسبة لإردوغان. قرر إردوغان الجديد أو - كما يطلق عليه منتقدوه هنا - «إردوغان الحقيقي» الظهور. بعد أن نجح في الترويج لذاته، بصفته قائدا يرفض التمسك بالانتماءات الآيديولوجية، أصبح أكثر قائد متشبث بآيديولوجيته تشهده تركيا الحديثة. واليوم أصبح حلمه بحكم تركيا لمدة عشرين عاما أخرى يمثل كابوسا لمعظم الأتراك. ولكن قد يقرر الأسلوب الذي مهد به الساحة مسار السياسة التركية لجيل مقبل. * انتخابات عالية المخاطر تستعد تركيا، في الوقت الحالي لإجراء انتخابات المجالس البلدية والاستفتاء على الدستور، وربما تكون حتى أول انتخابات رئاسية مباشرة، أكبر المكاسب التي تحققت في العقد الماضي، معرضة للخطر. في الداخل، يتسع الشقاق داخل معسكر العدالة والتنمية، حيث تحرم فضائح الفساد الحكومة من أهم ما تتزين به. ويبدو أن إردوغان يعتمد بازدياد على جهاز الاستخبارات ورئيسه الغامض، هاكان فيدان، الذي يعزز مكانته كصاحب نفوذ من وراء الكواليس. كما تُظهر تركيا مؤشرات على التراجع الاقتصادي. في يناير، أُجبرت الحكومة على مضاعفة سعر الفائدة لوقف التدافع على العملة الوطنية الليرة. وفي الوقت ذاته، انخفضت توقعات النمو الاقتصادي من متوسط 10 في المائة في العقد الماضي إلى ما يزيد على 6 في المائة فقط لعام 2014. وأشارت إحصائيات غير رسمية إلى صافي زيادة خروج رأس المال لأول مرة منذ عام 2004. يرجع قدر كبير من النمو الاقتصادي الملحوظ الذي حققته تركيا إلى الاستثمارات الأجنبية التي شجع عليها الاستقرار السياسي في البلاد. وقد يجف هذا المصدر الحيوي جراء مخاوف من احتمالية دخول تركيا في مرحلة صعبة في الحياة السياسية. إن الأسباب الجذرية لمشاكل تركيا الحالية سياسية. ويرجع توقف محاولة تطوير هوية قومية جديدة تشمل الإسلام مع التفوق عليه، إلى قرار إردوغان بالعودة إلى دائرة ناخبيه الإسلاميين الضيقة. سواء شاء إردوغان أم أبى، أصبح الشعب التركي مُغربا إلى حد كبير، ولا يملك أي رغبة في إعادة تنظيم مظاهر حياته الأساسية وفقا للإسلام. ولكن في الوقت ذاته، لا تلقى محاولات محو الإسلام من الحياة التركية تماما سوى الفشل. سيكون من الأفضل لحلفاء تركيا وجيرانها، ترك الخيارات مفتوحة أمامهم، مع الحفاظ على حوار مع جميع القوى الرئيسة المشتركة فيما يدور حاليا من خلاف سياسي، وصراع على السلطة. تقتضي الحكمة عدم استبعاد إردوغان وعلى الأقل حزب العدالة والتنمية.

قيادات إخوانية «منشقة» تعد بمفاجأة في مصر مع «متمردي» شباب الإخوان قيادات إخوانية «منشقة» تعد بمفاجأة في مصر مع «متمردي» شباب الإخوان

$
0
0
كشفت قيادات إخوانية سابقة في تنظيم الإخوان المسلمين عن وجود تحركات جدية داخل صفوف جماعة الإخوان للتمرد والخروج على أوامر السمع والطاعة لقيادات الجماعة وهو ما تمثل في حدوث تصدعات جديدة وانشقاقات جماعية في صورة أحزاب وحركات أعلنت عن نفسها مؤخرا، منها حركة إخوان بلا عنف التي تكونت عقب أحداث 30 يونيو وحزب التيار المصري تحت التأسيس الذي شكله مجموعة من شباب الإخوان الذين خرجوا خروجا كاملا عن الجماعة وقياداتها. وعلى الرغم من أنها ليست الحالة الأولى للانشقاق على الجماعة وقياداتها حيث سبقتها محاولات من أبو العلا ماضي وعبد المنعم أبو الفتوح اللذين انشقا على الجماعة بشكل درامي وكونا حزبي الوسط ومصر القوية على الترتيب، على الرغم مما سبق فإن ما كشفته قيادات إخوانية لـ«الشرق الأوسط» من حالة تململ وإحباط وغضب داخل الجماعة يؤكد ما يتردد في الكواليس عن وجود تمرد في صفوف الإخوان سيما في الأوساط الشبابية التي سادت بينها الرغبة في الاستقلالية عن الجماعة والتمرد على أفكارها وهو ما يعتبره المراقبون هدما لمبدأ السمع والطاعة الذي قامت الجماعة على أساسه وضمن لها البقاء طوال الفترة الماضية، الأمر الذي يثير سؤالا ملحا حول ما تمثله تلك التحركات الداخلية للإخوان المتمردين من تهديد للجماعة الأم سيما في ظل تأكيد القيادي الإخواني الدكتور كمال الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» عن وجود مفاجأة كبرى يعد لها مع شباب الإخوان والمنشقين على الجماعة. تشهد جماعة الإخوان المسلمين، التي حظرت أخيرا وتصنيفها ضمن الجماعات الإرهابية، حالات تصدع وانشقاقات داخلية بعضها انشقاقات هادئة أو صامتة آثرت الانزواء والبعد عن الأضواء بينما أعلن البعض الآخر تمرده صراحة على الجماعة وخروجه خروجا كاملا على تعاليمها وتشكيل كيانات سياسية بديلة. «أنصار محمد» كانت الخروج الجماعي الكبير الأول على جماعة الإخوان المسلمين في عهد الشيخ حسن البنا وكان ذلك عام 1939 عندما قرر محمد عطية خميس الانشقاق مع مجموعة من الرافضين لأوامر حسن البنا وفضوا بيعتهم له وكان من بينهم الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية آنذاك. لتتوالى بعد ذلك الانشقاقات في فترتي الخمسينات والستينات من قبل رموز الإخوان، وكان من أبرزهم الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف الأسبق ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذي كان أخطر انفصال لأحد كوادر الجماعة عندما فصل بقرار فردي من المرشد حسن الهضيبي بسبب قبوله وزارة الأوقاف وهو الانشقاق الذي صاحبه خروج عدد كبير من القيادات منهم الشيخ محمد الغزالي والدكتور عبد العزيز كامل، والشيخ عبد المعز عبد الستار. ثم جاءت مرحلة انشقاق أبو العلا ماضي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي وقيامه بتشكيل حزب الوسط مع كوادر إخوانية منشقة أعقبه واقعة الخروج الشهير للقيادي ثروت الخرباوي عام 2002 عن الجماعة وكشفه بعض أسرارها التي دعته للانشقاق عليها والتي تواكبت مع قرار تجميد عضوية القيادي مختار نوح المحامي بالجماعة قبل أن يعلن هو استقالته اعتراضا على سيطرة التيار المتشدد على الجماعة بحسب تصريحاته. وتعد مرحلة ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وما أعقبها من أحداث هي محطة جديدة للخروج الكبير والتمرد على جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث استقال الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد آنذاك، تلاه خروج الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ومجموعة من الشباب الذين كونوا معا حزب مصر القوية بعد أن تحدى الإخوان وأصر على الترشح في الانتخابات الرئاسية على غير رغبة الجماعة. ولم تمر سوى شهور قليلة حتى لحق القيادي الإخواني الكبير الدكتور كمال الهلباوي المتحدث باسم التنظيم الدولي للإخوان بقائمة المتمردين على الجماعة بإعلانه استقالته على الهواء احتجاجا على ترشيح خيرت الشاطر في انتخابات الرئاسة. وإذا كانت تلك الانشقاقات هي محطات مؤثرة في الجماعة، فإن فترة ما بعد سقوط نظام الإخوان وعزل الرئيس مرسي قد شهدت تغيرا نوعيا في الاحتجاجات الداخلية بالجماعة بعد ارتفاع أصوات الغاضبين والساخطين على أداء القيادات مما أدى إلى حالة تمرد مستتر لكن أصداءه آخذه في الظهور العلني في صور مختلفة وبدعم من قيادات إخوانية منشقة رغم محاولات إنكارها أو تجاهلها من قبل الجماعة نفسها. أحمد نزيلي، ابن عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين ومسؤول المكتب الإداري للجماعة بالجيزة، أحد أبرز شباب الإخوان الذين شاركوا في ثورة 25 يناير منذ اللحظة الأولى، وهو واحد من مجموعة من شباب الإخوان الذين تمردوا على الجماعة وأعلنوا انشقاقهم عنها عام 2011 وكونوا ما يعرف حاليا بحزب التيار المصري. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال: «كنت جزءا من شباب الإخوان المشاركين في ائتلاف شباب ثورة 25 يناير والذين ظلوا بميدان التحرير طيلة 18 يوما وبعدها فكرنا في تكوين حزب يجمع شباب الثورة ويحقق أهدافها في الوقت الذي سعت فيه جماعة الإخوان إلى الضغط علينا للانضمام إلى حزب الحرية والعدالة بينما كانت قناعتنا برفضنا التام لأن يكون للجماعة حزب سياسي إيمانا منا أن دورها هو دعوي فقط لكن مقاليد الإدارة وقتها كانت في يد من يريدون ذراعا سياسية لأفكارهم وهي أولى نقاط الاختلاف بيننا بالإضافة إلى اختلافنا معهم في انحيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية وفي برنامجهم الرأسمالي الذي تخلت عنه أميركا بعد ريغان!». وأضاف: «كونا النواة الأولى لحزب التيار المصري من مختلف الشخصيات حيث لا يمثل شباب الإخوان المنشقون فيه سوى نسبة سبعة في المائة تقريبا ورغم مرور ثلاث سنوات فإننا ما زلنا تحت التأسيس لأن عددنا هو ثلاثة آلاف عضو فقط حتى الآن وذلك بسبب مشاكل التمويل، كما أن الحراك لم يهدأ على الأرض خلال الفترة الماضية مما جعلنا في حالة انشغال واشتباك مستمر مع الشأن العام». وأكد نزيلي لـ«الشرق الأوسط» أنهم اتخذوا موقفهم ذلك لتوضيح الصورة لجماعة الإخوان بأن قراراتهم ليست على صواب خاصة ما يتعلق برفضهم للخلط بين الأنشطة السياسية والاجتماعية للجماعة لأنه يكون في غير صالح الجماعة وهو ما حدث بالفعل. وكشف أحمد نزيلي أن موقفه المتمرد على قيادات الإخوان تسبب في التحقيق معه مرتين حتى فصلوه قبل استكمال التحقيق الثالث. وأفصح لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «حينما تدخل طرف للوساطة مع مكتب الإرشاد بشأننا فإن خيرت الشاطر قال بالحرف: (العيال دي ما تنفعشي تكمل معانا في الجماعة!). والشاطر للعلم يعشق تنفيذ الإبداع لكنه لا يبدع في التنفيذ!». وحول تعاملهم الحالي مع الجماعة، قال أحمد نزيلي: «إننا لا نهتم بجذب أعضاء من جماعة الإخوان ولكننا كمجموعة تعبر عن شباب الثورة نحاول التواصل مع التيارات السياسية الأخرى وهو أسهل من مهمة الكلام مع الإخوان طالما ظلوا على إغراقهم في المظلومية والكربلائية إذ لا بد أولا أن يعقدوا مصالحة مع النفس ويعيدوا حساباتهم وألا يظل الكلام معهم صعبا وقد حاولنا مرارا إقناعهم بوجوب وقف الدم بعد الثالث من يوليو (تموز) والتعامل مع الدولة كدولة وليس في إطار معركة حربية، وإقناعهم بأن مرسي لن يعود لكنهم لم يقتنعوا ولم يفهموا أن قمة نجاحهم آنذاك قبول الخسائر المحدودة لصالح الاستمرار في المشهد». أما حسين عبد الرحمن المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» أن الحركة قامت لأن لهم تحفظات على إدارة القيادات للمشهد السياسي منذ اعتصام رابعة العدوية، حيث «تحفظنا على إدارة الاعتصام والتحريض على العنف والمشاركة فيه من قبل القيادات وكانت نقطة التحول حينما أعلنا مع 658 شابا من شباب الإخوان عن تركهم للاعتصام عقب أحداث الحرس الجمهوري التي وقعت قبل ساعات من بدء شهر رمضان الماضي، ومن هنا ترسخت الفكرة لدى شباب الإخوان بتكوين إخوان ضد العنف وهو ليس انشقاقا كاملا عن الإخوان ولكنها دعوة لنبذ العنف على اعتبار أن دور جماعة الإخوان هو دور دعوي بالأساس وقمنا بعمل استمارات على شاكلة استمارات تمرد وجمعنا في البداية 1738 توقيعا ثم ارتفعت إلى 22 ألفا وانتهينا إلى بلوغ عدد الموقعين معنا من أعضاء الإخوان إلى 45 ألف عضو منهم الشباب وكبار السن وإن كانت نسبة النساء محدودة». وأضاف عبد الرحمن: «إننا أردنا أن نكون إيجابيين ولا يكون اعتراضنا على الجماعة بتركها وإنما بإصلاحها من الداخل دون الانسحاب». وعن أهم تحفظات الحركة على قيادات جماعة الإخوان قال حسين عبد الرحمن: «نطالب بأن يكون وضع المرشد رمزيا وأن يكون القرار التنفيذي بيد مجلس شورى الجماعة وأن يكون مكتب الإرشاد جزءا من شورى الجماعة، كما هو في صميم الشريعة، لأن بعض الأشخاص المحسوبين على أبناء القيادات متحكمون في معظم الشعب والمكاتب الإدارية بنسبة أكبر من 70 في المائة، كما يقومون بإفشال الآخرين تنظيميا ومنع ترقيتهم من أعضاء إلى أمناء شعب وحتى المناصب السياسية التي تتولاها قيادات الجماعة في حزب الحرية والعدالة كانوا من داخل شورى الجماعة، وعلى سبيل المثال كنا معترضين على ترشح الدكتور سعد الكتاتني لأكثر من منصب بداية من رئاسة مجلس الشعب ثم لجنة تأسيسية الدستور وصولا لرئاسة حزب الحرية والعدالة، وكنا نرى أن عصام العريان أفضل من الكتاتني في رئاسة الحزب حتى لا نكرر تجربة تزاوج السلطة وبعض المناصب التي كانت في عهد مبارك». وعن نشاط الحركة حاليا، يقول المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف إنه في ظل اتساع حالة السخط العارم داخل الكتلة الصامتة من الجماعة «نعمل على تشكيل لجنة تقصي حقائق لكتابة تقرير رسمي عام عن الفترة منذ بدء اعتصام رابعة وحتى الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) الماضي لتقييم دور القيادات في التحريض على العنف وبمجرد ثبوت تورطهم في ذلك ستجري إحالتهم للجنة التأديب المنصوص عليها في اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان والتي تتكون من ستة أعضاء من مجلس شورى الجماعة وثلاثة من مكتب الإرشاد، وذلك تمهيدا لإصدار قرار فوري بفصل من يحرض على العنف أو من يثبت ارتكابه لفساد مالي حيث يوجد سخط عارم بين أعضاء الجماعة بسبب تحويل النفقات المخصصة للعمل الخيري إلى الإنفاق على الحشد والمسيرات وهو ما أدى إلى تضاؤل العمل الخيري الذي قامت الجماعة من أجله بالأساس إلى واحد في المائة بعد أن كان 45 في المائة من حجم إنفاق الجماعة». وكشف عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط» عن سعى الحركة إلى إجراء انتخابات جديدة بالجماعة مع استقطاب الرموز الإخوانية المنشقة وأنهم يحاولون إقناع الدكتور كمال الهلباوي للعودة لعمل مراجعات حقيقية للأفكار بمشاركة منشقين آخرين مثل الدكتور ثروت الخرباوي. وعن المقاومة التي تلاقيها الحركة من قبل القيادات الكلاسيكية بجماعة الإخوان أكد حسين عبد الرحمن أن هناك مقاومة مما يطلق عليهم الجيل الثاني والثالث من القيادات الرئيسة الذين يعتبرون التخلص من قيادات الصف الأول بمثابة التخلص منهم أيضا ولذلك فهم يصورون الشباب الذي تمرد على الجماعة على أنهم تابعون لجهات أمنية ومخابراتية بهدف شق صف جماعة الإخوان في محاولة لتشويه أي توجه إصلاحي داخل الجماعة. وأشار إلى أن قيادات جماعة الإخوان ساهموا في انهيار ما بناه حسن البنا خلال السنوات الماضية في سنة حكم الرئيس مرسي، مؤكدا معارضة شباب الحركة لأدائه وانتقادهم له خلال المائة يوم الأولى وطالبوه بالاعتذار للناس واستبدال المائة يوم بخطة سنوية لتفويت الفرصة على الخصوم لكنه لم يستمع لهم. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» أكد القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي تواصله مع حركة إخوان بلا عنف بالفعل هو والدكتور الهلباوي واستعداده للتعاون معهم إيمانا منه بالهدف الإصلاحي الذي قامت الحركة من أجله. ويعد الخرباوي من أشهر القيادات المنشقة عن جماعة الإخوان ووجه لهم نقدا لاذعا في كتاباته وآرائه الساخطة على أدائهم السياسي كما تنبأ بسقوطهم، ففي تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط» قال «إن جماعة الإخوان تأكل نفسها من الداخل لأنها تقوم على السمع والطاعة ولا تصلح أن تكون مؤسسة تدير دولة وهي بطبيعتها ستضمحل وتنتهي، تجربة الدكتور مرسي كرئيس لمصر ستكون الختام للإخوان وبها يضع تتر النهاية على جماعة الإخوان المسلمين»! أما القيادي الإخواني الدكتور إبراهيم الزعفراني الذي ظل لعقود طويلة بالجماعة قبل انشقاقه عنها 2011 فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» بأنه اعتزل العمل السياسي مؤخرا بعد تحفظه على أداء القيادات داخل الجماعة، واعتراضا على إعمال مبدأ الأبوية والأخوية، مشيرا إلى غياب قيمة العدل التي هي أساس الدعوة التي قامت الجماعة عليها. واستطرد قائلا: «لقد اعترضت على الخلط بين العمل الدعوي والسياسي وكان الدكتور عصام العريان والجزار يرون نفس ما رأيته أنا والدكتور أبو الفتوح لكنهما رأيا الاستمرار في الوجود محاولة للإصلاح الداخلي لكني لم أستطع الصبر فخرجت مستقيلا دون أن أفقد علاقتي بباقي الإخوة ولا احترامي لهم». وأضاف الزعفراني أن عدد المتمردين على الجماعة محدود، ولكنه عاد يؤكد وجود أفكار تدور بشكل جدي بين شباب الإخوان توجه اللوم بشدة للقيادات الإخوانية، كأفكار شبابية توجه انتقادات حقيقية، «وأنا آمل أن تتاح الفرصة لأفكارهم المتفتحة ويلعبوا دورا كبيرا لمصر لأن هناك كتلة كبيرة من الإخوان تعمل بصدق لوجه الله وإخلاصا لهذا البلد». أحمد بان هو نموذج ثالث لأحد القيادات الإخوانية الشابة الشهيرة المنشقة عن الإخوان في أعقاب ثورة يناير، تمردا على قياداتها، لكنه فضل الابتعاد عن العمل الحزبي وانخرط في العمل البحثي والكتابة الصحافية. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال بان: «لقد ودعت حياتي القديمة مع الإخوان للأبد وقررت الانشغال بالبحث العلمي للمراجعات الفكرية من واقع تجربتي الحركية وتجربتي مع الإخوان علما بأنني لم يكن لي مشاكل مع التنظيم ولم يحدث معي أي موقف سلبي ولم أكن مهمشا لكني قررت الاستقالة، وبعدها حرصت على أن أكون على مسافة واحدة مع كل من خرجوا من الجماعة». وعن الخروج أو الانشقاق عن جماعة الإخوان قال بان لـ«الشرق الأوسط»: «هناك من خرج من الجماعة لأسباب شخصية متعلقة بطموحه الشخصي أو لأسباب تتعلق باختلافه مع القيادة في أسلوب إدارتها. وأزعم أنني واحد من هؤلاء ولما خرجت كنت مسؤولا عن شعبة وكنت عضوا بالمكتب السياسي وشاركت معهم في تأسيس حزب الحرية والعدالة والذي اقتصرت عضويته على الأعضاء العاملين محل ثقة التنظيم بالكامل وكان عددهم 70 ألف عضو اختير منهم تسعة آلاف لتأسيس الحزب وكنت واحدا منهم كما جرى اختياري لعضوية المؤتمر العام للحزب وبعد كل ذلك استقلت بكامل إرادتي عام 2012». وحول أجواء التمرد داخل جماعة الإخوان أكد بان لـ«الشرق الأوسط» أن الانشقاقات تسربت للجماعة منذ السنوات الأولى على تكوينها وأن هناك انشقاقا دوريا كل خمس سنوات تقريبا كان أولها عام 1933 أي بعد خمس سنوات من تأسيسها مشيرا إلى أن مؤرخي الجماعة يطلقون على هذه الانشقاقات لقب «الفتنة الأولى» و«الفتنة الثانية».. وهكذا. وحول وضع الجماعة الآن قال المنشق الإخواني أحمد بان إن تركيبة الجماعة ليست مصمتة وإنما هناك 50 في المائة من أعضائها لم يكونوا مرحبين بفكرة الدخول لمضمار المنافسة على منصب الرئيس ولا بالفوز بالأغلبية في البرلمان السابق وكانوا لا يطمحون في أكثر من 30 أو 40 في المائة من المقاعد ولكن في آخر تصويت بعد صراع خيرت الشاطر والمجموعة إياها كان فارق الأصوات أربعة أصوات فقط وبقي 50 في المائة ضد هذا الترشح. وهؤلاء الخمسون في المائة جلسوا في بيوتهم بمجرد قيام أحداث 30 يونيو لأنهم شعروا أن الجماعة التي أعطوها أعمارهم وشبابهم قد سقطت وأصبحوا أقرب للاكتئاب والانزواء والانسحاب فخرجوا من المشهد تماما واندمجوا في جموع الشعب وليس لديهم أكثر من التعاطف مع حالة المظلومية التي يستخدمها قيادات الجماعة كأحد ميكانيزمات الدفاع والهروب من المحاسبة، ومن ثم فإن حالة المظلومية تلك سحبت جزءا بسيطا من هؤلاء الصامتين لفكرة الخروج فقط من أجل المناداة بالقصاص للدم وليس من أجل مرسي. وعلى ذلك، ينتهي الباحث أحمد بان إلى أن ما يحدث من تمرد متمثل في صورة انشقاقات هو عبارة عن انشقاق هادئ لأشخاص فضلوا الانزواء يجترون أحزانهم ولا يمارسون أي نشاط ولا ينضمون لأي كيانات أخرى سوى مجرد المشاركة في مظاهرات سلمية محدودة جدا ولذلك لا يمكن تناولها في التحليل. أما عن التجارب الخاصة بخلق كيانات بديلة كالتي يدعو إليها الدكتور كمال الهلباوي أو جماعات شباب الإخوان المنشقين قال بان لـ«الشرق الأوسط» إن هناك كيانات تحاول استغلال الحالة دون علم ومعرفة كافية بالإخوان وهناك أشخاص انشقوا بالفعل انشقاقا تاما نفسيا وحركيا عن الجماعة وكونوا كيانات أخرى مثل حزب التيار المصري الذي يكونه شباب كانوا من الإخوان قبل انشقاقهم وما زال حزبهم تحت التأسيس وكذلك حزب مصر القوية للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وإن كان هناك اختراق من جماعة الإخوان للحزب من خلال بعض أعضائه الذين لا يزالون على ولائهم للجماعة. وعن إمكانية دخوله في تجربة جديدة بديلة للإخوان أكد بان أن «جماعة الإخوان تحدث إنهاكا عاطفيا وعقليا للأعضاء، ولذلك فبعد أن قضيت نحو 20 سنة معهم لم تعد لدى القدرة على خوض أي تجربة جديدة، وللعلم فقد تفاعلت مع تجربة الدكتور كمال الهلباوي في بداية الأمر ولكني اكتشفت حدوث استبدال القفص الكبير بقفص أصغر، وربما يكون أكثر نعومة، لكنه في النهاية قفص، ومن ثم فهي محاولة جديدة لسجن أعضاء جدد في هذا القفص. وعموما فإن المسألة ستستغرق وقتا سواء لتبلور مثل هذه الكيانات الجديدة أو لاختفاء الكيانات الموجودة بالفعل وهو أمر معروف في الظواهر الاجتماعية». وشدد بان على أن أسلوب شيطنة الإخوان إعلاميا ومطاردتهم أمنيا ثبت فشله، ولا بد من تغيير هذا الأسلوب في تعامل الدولة معهم، مؤكدا أن أفضل تعامل كان في ظل عهد جمال عبد الناصر حينما كان هناك مشروع قومي باعتباره الأداة الرئيسة لكشف ضعف مشروع الإخوان وأن تراجع الدولة الوطنية عن أداء دورها هو الذي سمح للجماعات السلفية والجهادية والإخوان في التمدد بهذا الشكل. ومن جانبه أكد الدكتور كمال الهلباوي أبرز المنشقين على جماعة الإخوان المسلمين لـ«الشرق الأوسط» صحة وجود اتصالات بينه وبين متمردي الإخوان، وقال: «أنا متواصل مع شباب الإخوان من كل الاتجاهات بمن فيهم من لم يعلن عن نفسه وإذا صدقوا فيما قالوه لي فستكون هناك مفاجآت كبيرة تتعلق برغبة هؤلاء الشباب في تكوين جماعة جديدة مختلفة تماما عن جماعة الإخوان المسلمين وإن كان الأمر يحتاج لصبر وبعض الوقت لإتمام هذا الإنجاز الكبير». وأضاف الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» أن عدد هؤلاء الشباب بالآلاف. وحول حقيقة دوره في قيادة هذا التنظيم الجديد، قال الهلباوي: «إن هذا الشباب متحمس ولديه رغبة في نبذ العنف ويحتاج لمن يأخذ بيده ويقوده. أما عن نفسي فأقصى ما أستطيع أن أفعله أن أوجههم كمستشار لهم أو كنقطة مرجعية لدعوة سلمية لكنهم يحتاجون لخبرة في إدارة التنظيمات مثل الدكتور محمد حبيب والمحامي مختار نوح ربما يكونان الأفضل في ذلك». وعن تداعيات تكوين ذلك الكيان من متمردي شباب الإخوان على مستقبل الجماعة، قال الهلباوي: «إن الجماعة لم تعد كما كانت، ولن تعود كما كانت، ولا بد أن يعرف قياداتها المسجونون أو الهاربون أن شباب الإخوان الآن منقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول قسم معهم وهم الذين يقومون بالمظاهرات وينفذون ما يقولون. والقسم الثاني توقف حتى يستبين الحقيقة، بينما انشق القسم الثالث بالفعل بل ويستعد لإجراء محاكمات داخلية لقيادات الإخوان التي جاءت بكارثة على الجماعة كلها». من ناحية أخرى رفض القيادي الإخواني سيف الإسلام حسن البنا التعليق أو إبداء الرأي حول هذا التمرد الداخلي بجماعة الإخوان التي أسسها والده قبل عدة عقود، مؤكدا لـ«الشرق الأوسط» بنبرة يكسوها الحزن والأسى أنه سمع عن هذه التحركات، لكنه يرفض التعليق على مثل هذه الأمور ويؤثر الصمت في الفترة الأخيرة! وحول تحليل ما يحدث من تمرد داخل جماعة الإخوان في إطار الظاهرة الاجتماعية وتأثيرها على مستقبل الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي لـ«الشرق الأوسط»: «إن جماعة الإخوان المسلمين هي دوائر متلاصقة وهناك نواة أصلية هي الأقل عددا والأكثر تمكينا وهم من الأعضاء العاملين، بينما الدوائر الأخرى من الأعضاء المنتسبين وهو الأضخم عددا لكنهم الأقل تمثيلا وهي التي يحدث بها التصدع بينما الدوائر الضيقة تبقى كما هي. ومن ثم فكلما قام فريق من هؤلاء وتحدث عن انشقاق أنكرت الجماعة الأمر؛ فهي اعتادت جذب الناس للتعاطف معها لكن عند المواجهات فإنها تتنصل منهم ولا تعترف إلا بأعضائها العاملين فقط. وبالتالي فإنني أرى هذه الانشقاقات هامشية ويبدو الأمر في إطار توزيع الأدوار!». وأضاف أن «الحديث عن انشقاق بالمعنى العلمي، بأن يتمرد جزء معتبر صراحة، فإنني أعتقد أنه لا يحدث؛ لعدم وجود قائد يتم الانضمام إليه». وأكد عمار علي حسن أن من خرجوا عن الجماعة كان خروجهم على القيادة فقط، أما الخروج على فكر الإخوان تماما فهو لم يحدث إلا في حالات نادرة مثل حالة أحمد بان وسامح عيد وثروت الخرباوي بالإضافة لمجموعة أخرى صغيرة موجودة في محافظة البحيرة (قرب الإسكندرية). ومن ناحية أخرى أضاف أن هناك حالة تململ من القيادة وإحباطا من أعضاء الجماعة ورغبة لدى البعض للمراجعة، لكنهم يخشون الجهر بذلك حتى لا يتهموا بخيانة الجماعة بعد استهداف التنظيم من قبل السلطة بدليل عدم استجابتهم لكل نداءات التعبئة من قيادات الإخوان. وتعليقا على تجربة الهلباوي والخرباوي التي يعدان لها مع شباب الإخوان المتمردين على الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن لـ«الشرق الأوسط»: «هي فكرة جيدة تشكل نقطة جذب لقادة مختلفين عن التفكير القطبي لتنضم إليهم الأجيال المتلاحقة من الشباب ولو نجحوا فإننا سنكون بالفعل أمام انشقاق حقيقي وتاريخي لجماعة الإخوان. وفي جميع الأحوال فإن الجماعة مآلها إلى زوال بعد أن ظل قياديوها مقتنعين أنها عصية على الفناء نظرا لأنهم عاشوا على المدد الذي تلقوه من السلطات المتعاقبة»، مختتما بقوله: «إن الجماعة اعتمدت على كونها محكمة التنظيم، لكنهم كانوا بلا عقل. واليوم وقد ضرب تنظيمهم في الصميم، فهم إلى نهاية، خاصة مع موت قادتهم الشيوخ في السجون أو المنفى ومن ثم لو خرج انشقاق بالمعنى السابق ولديه رغبة في الإصلاح فإنه سينجح».

«سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر «سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر

$
0
0
في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، اعترف وزير الري والموارد المائية المصري السابق، الدكتور محمد نصر الدين علام، بوجود أخطاء في تعامل الإدارة المصرية مع ملف السد الإثيوبي. وأكد حدوث نوع من التهاون، من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع أديس أبابا وخلق عداوات، في فترة الثورة المصرية. بينما صرح الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصرية السابق، لـ«الشرق الأوسط»، بأن السياسة الخارجية لم تخطئ، وأن الخطأ كان من جانب الدولة حين أوكلت ملف سد النهضة الإثيوبي لجهة فنية متمثلة في وزارة الري. مشروع سد النهضة الإثيوبي أصبح مثار جدل كبير، بعد إعلان إثيوبيا عن إقامته دونما انتظار موافقة الجانب المصري أو التوافق معه. وفي الوقت الذي يحتفل فيه الإثيوبيون بالسد بوصفه مشروعا قوميا وانطلاقة للتنمية والتطور، يعده المصريون كارثة حقيقية تهددهم بالموت عطشا، وربما جوعا أيضا، بسبب تأثيراته السلبية على حصة مصر من المياه وعلى مشروعاتها الزراعية. وقد أدى فشل الحوار التفاوضي بين مسؤولي الدولتين، في جولاته المتتابعة، إلى تسخين الأجواء بين أديس أبابا والقاهرة، وتصاعد التوتر إلى درجة الحديث عن احتمالات اللجوء إلى عمل عسكري، أو توجيه ضربة خاطفة لتدمير السد. وقد ساهمت زيارة المشير عبد الفتاح السيسي إلى روسيا أخيرا، في زيادة القلق حول الموقف المصري، وتوابع التصميم الإثيوبي على المضي قدما في بناء السد على النيل الأزرق، أحد روافد نهر النيل. وقد طرحت هذه التطورات أسئلة كثيرة حول مستقبل ملف السد الإثيوبي والتعاطي المصري الرسمي معه، واحتمالات التصعيد من الجانبين. يرى الخبير الاستراتيجي اللواء جمال حواش، أستاذ إدارة الأزمات والتفاوض في أكاديمية ناصر العسكرية، أن ملف السد الإثيوبي سياسي يرتبط بالأمن القومي لمصر، ويجب عدم التهوين من شأنه، على حد قوله. وأضاف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن سد إثيوبيا واحد من 34 سدا كان مخططا لها هناك، ما يعني أن المسألة لم تكن مفاجئة لمصر، ولكن الحكومات الفائتة غضت الطرف عما يجري، وآخره ما حدث في عهد الرئيس مرسي من تراخ. وللأسف بدأت المخاطر تهل بحدوث زلازل في المنطقة، هي أولى توابع السد، لأن البحيرات الصناعية تؤدي إلى حدوث الزلازل. لذلك لا يمكنهم رفع حجم المخزون إلى 164 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل مخزون السد العالي في مصر، نظرا لاختلاف الجيولوجيا، وعدم قدرة الأرض على تحمل ضغط هذه الكمية من المياه. كما أن السد لا يملك قدرة على الثبات، وبالتالي أعيد فتح المسألة الآن، لأنهم لم يجدوا من يقف لهم، بعد أن تحول الملف إلى وزارة الموارد المائية، رغم أنه كان ملفا أمنيا قوميا لدى اللواء الراحل عمر سليمان، الذي لم يكن يسمح لهم بالتفكير في المشروع. لذلك لم يطرح إلا بعد وفاته مباشرة. وساهم في تعقيد الأمر ما تمر به مصر منذ أحداث الثورة، بالإضافة إلى الإزعاج الذي تعرض له التنظيم الدولي في العالم، والموقف الأميركي، وتوالي المعونات المقدمة إلى إثيوبيا، من هنا وهناك، بحكم المثل القائل «إن المصالح تتصالح»؛ لذلك فإن إثيوبيا الآن تتحدث عن سد كامل السعة، بعد أن كانت تتحدث عن سد لا تتجاوز سعته 30 مليار متر مكعب، وإلى جانب ذلك، فإننا نتحمل نتيجة إهمالنا أفريقيا خلال السنوات الماضية. وعن الحلول، أكد حواش أن أسلم حل هو «الرجوع إلى التفاوض جنبا إلى جنب، مع دعم قدراتنا، وإبراز قوتنا، في إطار الرد من دون أن نلجأ إليها. لذلك فإن زيارة المشير السيسي إلى روسيا حملت رسالة مهمة لكل الأطراف، ليعرفوا أننا لن نقف عند السلاح الأميركي. لكن هذا لا يعني إعلان الحرب، فهذا ليس من الحكمة، لأن أفريقيا هي عمق مصر وامتدادها، وليس من المعقول التلويح بحرب في هذه المنطقة، في هذا الوقت الذي تقف فيه المؤسسات الدولية ضد مصر، وعلى رأسها الأمم المتحدة وحلف الأطلنطي الذي يدافع عن تركيا في حال تعرضها لأي مكروه في إثيوبيا، بحكم دعمها للسد الإثيوبي». وقال: «إن دق طبول الحرب ضد إثيوبيا معناه أن مصر تقدم دعوات لجميع دول العالم للتدخل، بحكم كون إثيوبيا دولة صغيرة ليست بحجم مصر». وأكد اللواء جمال حواش أن المناخ الدولي والإقليمي غير ملائم أيضا حتى لتوجيه ضربة خاطفة. وقال إنه لا بد من فتح نوافذ التصالح، وإن اضطرت مصر لخلق الوسطاء فهذا ليس عيبا، سواء كان الوسيط عاديا أو مفاوضا يحل محل أحد الأطراف للكلام باسمهم، لضمان ما جرى الاتفاق عليه، مع الأخذ في الاعتبار أن باقي الكتل تعمل لمصالحها، ونعول كثيرا على الدول العربية ودورها في دعم موقف مصر. وختم قائلا إن هناك أساليب أخرى يمكن العمل بها من دون إعلان تفاصيلها، بالترافق مع المساعي الحثيثة التي لا تضر ومن دون أي انفعال. * جدل مبكر * الدكتور حيدر إبراهيم، المفكر والباحث السوداني، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموضوع يتحرك في إطار دعاية جاهلة، وتصدر سياسيين لمشهد يتطلب خبراء متخصصين، لأن هناك جوانب فنية وتخصصية تتعلق بموضوع السد، هي التي يجب أن تكون لها الكلمة العليا، لكن ما يحدث هو أن الموضوع أخذ بعدا سياسيا مبالغا فيه، بدليل تضارب تصريحات المسؤولين في الحكومتين السودانية والمصرية؛ فهم يتكلمون بوصفهم سياسيين وليس متخصصين في المياه والسدود. مما ساهم في تعكير صفو الأجواء، وتحويل المسألة من قضية فنية ذات بعد علمي، إلى أزمة سياسية. وأضاف إبراهيم أن سد إثيوبيا الذي أثار كل هذا الجدل، مجرد تصور وخرائط على ورق، تحاول إثيوبيا عرضها على بعض الدول لمساعدتها، لأنها لن تستطيع تنفيذ المشروع وحدها. وبالتالي فأنا أرى أن الموضوع يحمل مبالغة وتهويلا كبيرين. وقال أيضا إن هناك نسبة بخر وفاقدا كبيرا في مياه النيل الأبيض والأزرق، بسبب وجود حشائش تمتص مياههما. ولو قام علماؤنا ببحث كيفية توفير هذا الفاقد، والتخلص من تلك الحشائش لأمكن توفير فائض كبير تستفيد منه دول المصب. بل إن هناك مشكلة يعاني منها الجنوبيون في السودان، بسبب فائض المياه الزائدة، التي تكون مستنقعات، وتتسبب في حدوث الملاريا. ويتمنى السكان لو تخلصوا من هذا الفائض لصالح مصر لتحقيق فائدة مزدوجة، لكن للأسف، لم تطرح هذه الموضوعات. فيما يبقى التركيز فقط على تسييس أزمة سد إثيوبيا من دون معرفة حقيقية بتفاصيل المشروع، حتى وهو مجرد خرائط على الورق، لا لشيء سوى لدواعي الإثارة، وهذه هي آفة شعوبنا للأسف. * مخاطر جيولوجية * وحول الجوانب الفنية في سد النهضة الإثيوبي، أكد الدكتور مغاوري شحاتة، خبير جيولوجيا المياه في جامعة المنوفية، لـ«الشرق الأوسط»، أن السد الإثيوبي أصبح أمرا واقعا، بعد أن ثبتت إثيوبيا قواعد البنية الأساسية الخاصة به. وقد أعلن المسؤولون الإثيوبيون أنه ابتداء من سبتمبر (أيلول) المقبل سيجري حجز المياه خلف السد، مما يؤثر على حصة مصر. وأضاف أن سبب الجدل المثار حول السد الإثيوبي المزمع بناؤه على نهر النيل، يتعلق بالمخاطر الكثيرة المترتبة على توابعه؛ لأن منطقة السد لها طبيعة خاصة من الصخور القاعدية، وهي نوع من الصخور المكونة لقشرة الأرض. كما أن ثلثي تكوين حوض نهر النيل الأزرق، في جزئه العلوي، من البازلت، أي أن المياه ستحمل ركاما من صخور بازلتية. كما أن جسم السد يتكون من خرسانة وفتحات للتوربينات، بالإضافة إلى جسم سد آخر ملحق به، وهو سد ثانوي ترابي ركامي، بامتداد 4800 متر، وسعته التخزينية 63 مليار متر مكعب، لتصل الطاقة الإجمالية للتخزين في السدين معا إلى أكثر من 90 مليار متر مكعب، بعد إضافة المياه الجوفية. هذا يعني أن نحو90 مليار طن من المياه ستقع على هذا الجزء الجرانيتي المتشقق، الذي يعاني من الفواصل والكسور، وربما تحدث بعض الهزات الأرضية في المنطقة تصل قوتها إلى ست درجات على مقياس ريختر، تهدد جسم السدين معا، وتعرضهما للانزلاق والانهيار، ما يعرض السودان إلى خطر الفيضان والإغراق، لدرجة اختفاء مدينة الخرطوم بالكامل. كما ستطال الأراضي المصرية، بعض هذه الكوارث. هذا إلى جانب مشكلات أخرى هندسية وفنية، كشفتها دراسات وتقارير اللجنة الثلاثية الدولية، حيث أشار الجانب الألماني إلى أن السد يقع فوق منطقة هندسية تكتونية ديناميكية متحركة وغير آمنة، ما يعرض السد للتدمير بسبب كتلة المياه وكتلة السدين معا، إلى جانب مخاطر تتعلق بحدوث تفاعلات بين المياه والصخور. وكشف خبير جيولوجيا المياه لـ«الشرق الأوسط» عن أن الجانب الإثيوبي أسند مهمة إقامة السد، بالأمر المباشر، إلى شركة إيطالية. ووضعت مواصفاته على عجل، وهذا على غير المألوف في مثل هذه المشروعات القومية، وذلك لسباقهم مع الزمن والسرعة في إتمامه، رغم أن المفروض هو إنجازه على مراحل وفق دراسات علمية متخصصة. وأكد د. مغاوري شحاتة أن هناك خطأ في تصميم السد، حيث تتدفق المياه عبر جسم السد، مما يعرضه للخطر، فضلا عن المخاطر البيئية. وقال إنه كان يجب على الجانب الإثيوبي أن ينصت لمصر، ويتوجه لبدائل أخرى لتوليد الطاقة الكهربائية المطلوبة، عبر مجموعة من السدود الصغيرة التي يقل ضررها وتأثيرها على الأمن المائي المصري. لكن إثيوبيا متمسكة بالعناد رغم أن السد يتكلف عشرة مليار دولار، ولا يزيد عمره الافتراضي على 15 سنة. لكن هناك أطرافا دولية في الموضوع، وعلى رأسها تركيا التي لا أفهم سر إصرارها على نقل خبراتها السلبية في سوريا والعراق إلى إثيوبيا في مواجهة مصر. لكن المسألة ترتبط بنواح سياسية، ولا تجري في إطار التعاون الودي المفترض، فيما بين دول حوض النهر الواحد. * إثيوبيا لا تقوى على التراجع * ومن جهة أخرى، قال حلمي شعراوي، مدير مركز البحوث العربية والأفريقية في القاهرة، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن المسؤولين المصريين يتحملون المسؤولية تاريخيا عما حدث من إرباك المشهد المتعلق بسد النهضة الإثيوبي. بالإضافة إلى أننا معروفون في العالم بإهدارنا للمياه، فيما بين 10 و15 مليار متر مكعب سنويا، بسبب سوء التعامل مع نهر النيل. لكن مع ذلك، فهذا لا يعني أن يأتي الطرف الإثيوبي ويضربني من خلال القفزة الكبيرة التي قامت بها الحكومة الإثيوبية في السعة التخزينية للسد؛ فقد كانت تتحدث، في بداية الأمر، عن 17 مليار متر مكعب كحد أقصى يجري تخزينها خلال 7 إلى 15 سنة، حتى فوجئنا بتلك الطفرة في سعة التخزين، وربما كان ذلك دافع الحكومة المصرية في التعامل مع الأمر، وكأنه غير مضر لمصر آنذاك. وأضاف شعراوي، مع ذلك، فإن الحكومة المصرية لا تستطيع الضغط على إثيوبيا لإيقاف المشروع؛ لأن الصورة التي لا يعلمها الكثيرون أن إثيوبيا أصغر جزء في الموضوع، وهي لا تملك التراجع، لأن الأمر يتعلق بالرأسمالية العالمية، وفكرة عولمة مشروعات المياه لاستغلال الطاقة، ومنها مشروعات نهر النيل؛ فمشروع سد النهضة الإثيوبي ليس مجرد مشروع ثنائي أو بسيط، وإنما مشروع عالمي؛ فحوائط السد هي استثمار إيطالي، وإنتاج الطاقة استثمارات هندية - صينية. وهناك شركة صينية ستقوم بنقل الكهرباء، بينما تقوم إسرائيل بالتسويق للمنتج، يعنى كسمسار. ومن حق مصر كسوق كبيرة التفكير في المشاركة في الاستثمارات. * الحل العسكري خطأ * وحول إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري أو توجيه ضربة عسكرية لسد إثيوبيا، قال اللواء عادل سليمان، الخبير الاستراتيجي ورئيس منتدى الحوار الاستراتيجي، لـ«الشرق الأوسط»، إنني أختلف تماما مع من يروجون لفكرة توجيه ضربة عسكرية لإثيوبية، بل أرى هذه التصريحات نوعا من العبث، لأنه لا يصح أبدا أن نقول هذا الكلام ونحن كنا دولة تساند أفريقيا في الماضي. كما أن عصر الضربات العسكرية انتهى، ولا يمكن مقارنة موضوع سد إثيوبيا بموضوع الحفار الذي جرى خطفه في عملية استخباراتية بحتة؛ فنحن لسنا في حالة حرب، ودول حوض النيل تنقسم إلى دول منبع وممر ومصب، والمفروض أن تكون هناك مصلحة مشتركة في التعاون والاتفاق حول كيفية استغلال مياه المورد الضخم، علما بأن هذا المورد لا نستفيد تقريبا إلا بنحو ستة في المائة منه فقط، والباقي يجري فقده، ومن حق دولة إثيوبيا أن تقيم مشروعات للتنمية والتطوير وتوليد الطاقة، بعد أن عاشت لسنوات محرومة من هذه المشروعات. ومن ثم ليس من حقنا اللجوء إلى الحل العسكري، ولا يمكن أن نستطيع القيام به، لا ماديا ولا جغرافيًّا. بل بالعكس، إنني أرى أن مثل هذه التصريحات العدائية في مصر تسبب لنا المشكلات، لكن من ناحية أخرى يمكن لمصر أن تلجأ إلى المؤسسات الدولية، وتتقدم بشكوى ليس لطلب هدم السد، وإنما لتشكيل لجنة محايدة ومتخصصة، تبحث وترصد أضرار السد وتوابعه، وكيفية الحل، ولكن للأسف سوء الإدارة في الحكومة المصرية، وفشل السياسة الخارجية المصرية في تناول ملف السد وراء هذه الأزمة الآن، وكان المفروض أن يتجه المسؤولون المصريون إلى التفاهم مع دول النيل دون تعالٍ، وأن تجري مناقشته في إطار أن موضوع السد موضوع فني سياسي مزدوج، يتعلق بمصدر مهم وحيوي للمياه يؤثر علينا، ومن ثم مطلوب التعامل فنيا وسياسيا مع الموضوع وبكفاءة عالية ومدروسة جيدا، وفي إطار تعاون بين دول حوض النيل، ولا ننسى أننا دولة مصب وإثيوبيا دولة منبع. * تقصير مصري * وردا على الاتهامات الموجهة، أخيرا إلى وزارات الموارد المائية المتعاقبة في مصر، بالتقصير في ملف سد إثيوبيا، قال الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري، خلال الفترة من 11 مارس (آذار) 2009 حتى 30 يناير (كانون الثاني) 2011، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن إثيوبيا استغلت فترات الثورة المصرية وأحداثها المتلاحقة في الإسراع بإقامة السد، وإن كان هناك خطأ في الإدارة المصرية بلا شك في تعاملها مع هذا الملف، وحدث نوع من التهاون، ولكن كان ذلك من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع إثيوبيا وخلق عداوات في فترة صعبة وغير مستقرة آنذاك. وأوضح الوزير علام لـ«الشرق الأوسط» أن مخطط سد النهضة بدأ منذ عام 1964، ردا على بناء السد العالي بمصر. وكانت أميركا قد أرسلت بعثة كبيرة عام 1958 حول إقامة عدد من المشروعات، منها أربعة سدود كبرى، أحدها يدعى سد الحدود ويعرف الآن بسد النهضة. وكانت سعة هذا السد حتى عام 2010 عشرة مليار متر مكعب، ثم قفزت إلى 14 مليارا. وقد حاولت إثيوبيا على مدار التاريخ إقامة هذا السد، لكنها لم تفعل احتراما لزعامة عبد الناصر. ثم تقدمت بشكوى ضد مصر عام 1959، أعقبها قيامها بفصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية بعد 1624 سنة من الارتباط، ثم تجددت المناوشات في عهد السادات فتوقفت أديس أبابا عندما هددها بهدم السد، وتفضيل المصريين للاستشهاد في إثيوبيا على الموت عطشا. وتكرر الموقف نفسه في عهد مبارك، أيام المشير أبو غزالة، ثم أيام عمر سليمان الذي هدد بتحطيم أي منشأة خاصة ببناء السد على نهر النيل. وحول دور الجانب المصري في هذا الموضوع، أوضح وزير الري والموارد المائية السابق، أن إثيوبيا دخلت مخطط السدود عام 2005، وطالبت مصر باستيفاء الدراسات الخاصة بالآثار الضارة للسد عليها، ثم رفض الجانب المصري تلك الدراسات، ورفض إقامة أي سد، حتى يجري الأخذ في الاعتبار تلك الآثار. وأضاف أنه بعد الثورة المصرية ظهرت تسريبات إثيوبية حول إقامة سد مكان سد الحدود. وخلال شهرين جرى التوقيع مع الشركة الإيطالية بشكل سريع ومخالف لإجراءات القانون الدولي، من وجوب إخطار مصر قبل الإقدام على هذه الخطوة. وبعدها سافر رئيس الوزراء آنذاك، عصام شرف، واتفق على تشكيل لجنة ثلاثية لتقييم الدراسات الإثيوبية. وهنا كان خطأ الإدارة المصرية، وتهاونها في الحيلولة دون تصعيد الموقف. وكانت النتيجة أن هذه اللجنة كانت استشارية، ورأيها غير ملزم. والغريب أنه قبل يومين من انتهاء تلك اللجنة من تقريرها، جرى تحويل مجرى النيل الأزرق، مما أدى إلى تصاعد الأزمة، خاصة أن اللجنة انتهت إلى أن الدراسات الإثيوبية غير متكاملة. وبعد أحداث 30 يونيو (حزيران)، وبدلا من التفاوض حول حجم السد وأضراره الشديدة على مصر، رفضت إثيوبيا وجود خبراء دوليين، واكتفت بالمحليين. ورغم أن الخطأ المصري غير مقصود، فإنه أدى إلى فرض إثيوبيا أسلوبها على المفاوض المصري والسوداني. وعن إمكانية اللجوء إلى التحكيم الدولي، قال د. نصر الدين علام إنه لا بد أن يوافق الطرفان على اللجوء إلى التحكيم الدولي. وموقف إثيوبيا واضح، فهي لن توافق، ولكن هناك وسيلة أخرى مثلما فعل الفلسطينيون مع إسرائيل، بخصوص الجدار العازل، حيث جرى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، من خلال طرق باب الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهنا يمكن الحصول على فتوى قانونية خلال سنة أو أكثر قليلا، تستخدمها مصر كورقة ضغط سياسي على إثيوبيا. وأنا أؤكد أنه لن يستكمل سد إثيوبيا بهذه المقاييس، ولن تسمح مصر بذلك، وستستخدم كل الوسائل المتاحة. * إقناع العالم أولا * خبير المياه الدولي الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، أبدى أيضا تحفظه على فكرة اللجوء إلى الحل العسكري، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن مصر لا تستطيع القيام بأي عمل عسكري ضد سد إثيوبيا، قبل أن تقنع العالم أولا بعدالة القضية المصرية؛ فإثيوبيا ترسي بتصرفها هذا مبدأ فوضى إقامة السدود في العالم، وفرض مبدأ السيادة المطلقة على مرفق مشترك. وهو أمر لا يجوز، لكنها نجحت في إقناع العالم بأن مصر هي التي تكره الخير لإثيوبيا، وأن المصريين يسرقون مياه نهر النيل رغم أن تقدير الأمم المتحدة يشير إلى أن إثيوبيا تحصل على 122 مليار متر مكعب من الأنهار فقط، يذهب منها 71 مليارا لنهر النيل. كما أن موقف أديس أبابا مخادع، إذ إن لدى الإثيوبيين 13 سدا، وسد النهضة هو رقم 14، كما أنه سيتبع بمجموعة من السدود التي تخزن ما يقرب من 200 مليار متر مكعب، وهو أمر خطير؛ لذلك لا بد لمصر من أن توضح للعالم حقيقة الأمر، لكننا للأسف أصحاب قضية عادلة لكن محاميها ضعيف، مما أفشل القضية نفسها، حيث تركت الساحة الخارجية للإثيوبيين فقط، وكأننا كنا مغيبين، رغم الخسارة الكبيرة التي تعود على مصر بسبب سد النهضة، حيث إن حجز 74 مليار متر مكعب وراء هذا السد، على مدار ثلاث سنوات، من النيل الأزرق الذي لا يتجاوز إجمالي مياهه 48 مليار متر مكعب، سيعني نقص 25 مليار متر مكعب من حصة مصر خلال تلك الفترة، بما يتبعه تبوير خمسة ملايين فدان، وبعد ذلك يصبح هناك 12 مليار متر مكعب مخصومين من حصة مصر سنويا، بما يعني تبوير 2.5 مليون فدان على الأقل، أي أن نحو 30 في المائة من الأراضي الزراعية المصرية ستبور، وبالتالي تزداد الفجوة الغذائية وفجوة المياه، ومن ثم فإذا كان سد إثيوبيا يكلفها نحو تسعة مليارات دولار، فإنه سيسبب خسائر لمصر تصل إلى نحو 20 مليار دولار، لكن العالم لا يعرف هذه التفاصيل، وحجتنا غائبة عنه. ويطالب نور الدين المسؤولين المصريين بتقديم شكوى للاتحاد الأفريقي أولا، ثم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لحشد الرأي العام العالمي، وعلينا رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية؛ لأن اللجوء إلى التحكيم غير مجدٍ لتطلبه موافقة إثيوبيا أيضا، وهو ما لا يحدث. وأكد دكتور نبيل نور الدين أن الوقت «ليس في صالحنا، لأن الجانب الإثيوبي رفض وقف بناء السد لحين التوافق عليه». لذلك ليس أمامنا إلا التحرك سريعا خلال ثلاثة إلى ستة أشهر مقبلة، قبل أن يبدأوا في حجز المياه أواخر هذا العام. وردا على اتهام السياسة الخارجية المصرية بالضعف والتهاون في تعاملها مع ملف سد النهضة الإثيوبي، قال الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصري السابق، إن الخارجية المصرية لم تقصر، وإنما التقصير جاء من الدولة كلها؛ لأن التعامل مع هذه القضية كان يستلزم تشكيل لجنة عليا على غرار اللجنة الخاصة بقضية طابا المصرية، لكن للأسف جرى تسليم الملف لجهة فنية تمثلت في وزارة الري - مع احترامنا لها - لكنها لم تصل إلى نتيجة مرضية، وهو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، لكن ذلك لا يعني دق طبول الحرب، بل يتطلب الأمر ممارسة مصر للدبلوماسية الصارمة مع إثيوبيا، خاصة أن الأخيرة اتخذت موقفا هجوميا ضد مصر، بعد ثورة يناير، وتساقط أجهزتها السيادية في تلك الفترة. وأضاف الوزير العرابي أن إثيوبيا الآن تطبق بمهارة الدعوة إلى التفاوض على جولات بهدف كسب الوقت، وهو أمر معروف في الدبلوماسية، مشيرا إلى أن قضية سد إثيوبيا لن تموت خاصة مع إبراز المخاطر الجيولوجية، على كل الدول وليس مصر وإثيوبيا فقط، وعرض هذا الملف على المجتمع الدولي، وعندها سنصل إلى نتيجة هذا إلى جانب العمل بالتوازي مع بدائل أخرى، كتحلية المياه واستخدام المفاعلات النووية وغيرها من المشروعات البديلة.

أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين» أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين»

$
0
0
أعلنت الحكومة المصرية الانتقالية رسميا جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2013. وجاء القرار الذي مثل صدمة بالنسبة لمعظم مراقبي الشأن المصري، بعد أيام قليلة من عملية انتحارية نفذتها جماعة تطلق على نفسها اسم «أنصار بيت المقدس» – يعتقد أنها ذات صلات بالمسلحين الفلسطينيين في غزة - ضد مقر للشرطة بمنطقة الدلتا. وعلى الرغم من عدم وجود صلة بين الجماعتين، جاءت تلك العملية كالقشة التي قسمت ظهر البعير في أعقاب أشهر من الغضب الشعبي وحنق النظام ضد جماعة الإخوان نظرا للقيام بأعمال عنف والحث عليها. منذ أن خلع الجيش المصري الرئيس السابق، عضو جماعة الإخوان، محمد مرسي، كانت البلاد ترزح تحت وطأة العنف والصراع الطائفي والاضطرابات. وكان الخطاب السائد والناجم عن ذلك المزيج الخطر – وإن كان هذا الخطاب نسجته بعناية أعلى نخبة بالجيش – هو خطاب الحرب على الإرهاب. وفي إطار هذا الخطاب، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين العدو الأول للشعب، خاصة وأن النظام سلط الضوء على التصريحات التي أطلقها أعضاء بجماعة الإخوان في أعقاب الانقلاب تعهدوا فيها بالاستشهاد دفاعا عن قضيتهم. * استعادة الوضع الأميركي في مصر * تجد الولايات المتحدة الآن نفسها في موقف ملتبس حيث يجب عليها السير بحذر وسط أرض تعج بالألغام الأرضية. وعلى الرغم من هذا الخطر، تحاول أميركا مرة أخرى أن تستعيد وضعها في مصر؛ وذلك حيث إن العلاقات الثنائية التي كانت من قبل تمثل حجر الأساس في بنية التحالف الأميركي في المنطقة كانت قد بدأت تشهد تراجعا سريعا بعدما أنتج ميدان التحرير ثورة 25 يناير (كانون الثاني). فعلى الرغم من أن الدعم الأميركي لمصر كان قد صمد أمام العديد من التغيرات في السنوات السابقة، فإنه لم يخرج منها دون أضرار، إذ ساهمت العديد من العوامل في تراجع العلاقات الأميركية - المصرية؛ يتداعى اثنان منها على وجه الخصوص إلى الأذهان حاليا. أولا، طبيعة السياسة الخارجية الأميركية تجاه مصر والمعتمدة على رد الفعل والتي كان العديد منا يرى أنها تأتي متأخرة باستمرار خطوتين عن تطور الأحداث على الأرض كما أنها لم تكن تتوافق دائما مع لب المصالح الأميركية وهو ما ساعد على احتقان العلاقات. وثانيا، تعرض ذلك التحالف للاضطرابات إثر تغير الأوضاع السريع في مصر، فبعدما كان مبارك في القمة هبط منها في غمضة عين، وبعدما كانت جماعة الإخوان المسلمين تحظى بأغلبية أصوات الناخبين؛ حيث حصلت على 51.7 في المائة من الأصوات في صندوق الاقتراع، اتهمت في اليوم التالي بأنها تحاول بناء ديكتاتورية إسلامية جديدة. وقد دفعت هذه التغيرات الرئيسة في القيادة الولايات المتحدة للتساؤل عما إذا كان التحالف مع مصر يمكن إنقاذه أم لا وما تكلفة إنقاذه. وفي هذا السياق، يجب علينا فحص السؤال بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تؤيد قرار الحكومة المصرية بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، والأهم من ذلك: هل تحذو حذوها. بغض النظر عن انعدام الثقة المتبادل بين الحلفاء، يجب أن نأخذ في اعتبارنا المشهد الحالي في المنطقة، وذلك حيث إن انتباه الولايات المتحدة كان مشتتا في العديد من القضايا؛ تحديدا إيران وسوريا والمشروع التاريخي لوزير الخارجية الأميركي جون كيري – مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية - مما جعلها تبدو أكثر انشغالا من أن تولي اهتماما لمصر ناهيك عن أن تتخذ موقفا واضحا بشأن قرارها بتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية. كما أن هناك دليلا على أن تقديم الولايات المتحدة الدعم لهذا القرار في هذه اللحظة لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة في هذه المرحلة وهو ما سأشرحه لاحقا. على أية حال، لم يمض قرار الحكومة المصرية بتصنيف الجماعة كجماعة إرهابية تماما دون أن يلفت الأنظار في واشنطن. ومع ذلك، فإن التصريح الرسمي الوحيد حول ذلك القرار جاء من المتحدثة باسم الخارجية الأميركية التي قرأت بعناية تصريحا معدا مسبقا يتمحور حول تداعيات مثل تلك الخطوة على الحريات التي يكفلها القانون للأميركيين وليس للمصريين، فيقول التصريح: «نحن قلقون بشأن تصنيف الحكومة المصرية الانتقالية في 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، بالإضافة إلى استمرار حملات اعتقال واحتجاز المتظاهرين السلميين ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء السياسيين. وما زلنا قلقين بعمق بشأن الاعتقالات والاحتجازات والاتهامات بدوافع سياسية في مصر. وكما قلنا، تثير هذه الأفعال التساؤلات حول تطبيق القانون بعدالة ودون انحياز، كما أنها لن تمضي قدما بالعملية الانتقالية». وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يدل بأية تصريحات حول تلك القضية حتى الآن، أعرب وزير الخارجية جون كيري عن مخاوفه في مكالمة هاتفية مع نظيره المصري، وزير الخارجية نبيل فهمي قبل ذلك بأربعة أيام. وكان لهذه المكالمة هدفان: التعبير عن عزاء كيري الصادق للحكومة المصرية وأسر ضحايا الهجوم الإرهابي الذي استهدف مديرية أمن الدقهلية في المنصورة وللتأكيد على حاجة مصر إلى إقامة عملية سلام شاملة تحترم حقوق الإنسان الأساسية وتضمنها لكافة المواطنين، بالإضافة إلى الحاجة لتحقيق الاستقرار السياسي والتغير الديمقراطي. وبالمثل، اتصل وزير الدفاع تشاك هيغل بوزير الدفاع المصري، عبد الفتاح السيسي قبل يوم من تصريح وزارة الخارجية، مقدما تعازيه ومناقشا ما وصفه وزير الدفاع بـ«التوازن بين الأمن والحرية». ولهذه المحادثة أهمية خاصة أخذا في الاعتبار أن قدرا كبيرا من العلاقات الثنائية بين البلدين كان يعتمد على هذين الرجلين وليس على الفرق الدبلوماسية التي أوكلتها الدولتان لهذه المهمة. ومع ذلك، لم يقم أي من كيري أو هيغل بذم أو امتداح ذلك التصنيف. ويبدو أن عدم وجود رد فعل رسمي يعكس إلى حد ما رغبة في التقليل من شأن القضية. * الولايات المتحدة اختارت عدم الانحياز * وفي الحقيقة، حدد أوباما هذا المسار بنفسه قبل عدة شهور أثناء الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال مباشرة إنه يعتزم عدم الانحياز لأحد الأطراف، مؤكدا أن كلا من الرئيس المعزول محمد مرسي والحكومة الانتقالية يحكمان بأسلوب قمعي ولا يتضمن كافة الأطياف، مضيفا: «لقد اختارت الولايات المتحدة عدم الانحياز لأي من الأطراف»، مؤكدا أن أميركا سوف تتوقف عن لعب دور الوسيط في السياسات الداخلية المصرية لكي تتمكن من تحقيق أهداف أكثر تحديدا». وأكد أوباما أن الولايات المتحدة: «سوف تستمر في مضيها قدما في الحفاظ على علاقات بناءة مع الحكومة الانتقالية فيما تدعم المصالح الرئيسة مثل اتفاقيات كامب ديفيد ومكافحة الإرهاب». كما قدم أوباما تفسيرا إضافيا لهذا التصريح قائلا: «سوف تعمل الولايات المتحدة في بعض الأحيان مع حكومات لا تلبي، على الأقل من وجهة نظرنا، أعلى المعايير الدولية، ولكنها تعمل معنا في مضمار مصالحنا الجوهرية ولكننا في الوقت نفسه لن نكف عن التأكيد على المبادئ التي تتفق مع المثل التي نؤمن بها سواء كان ذلك يعني معارضة استخدام العنف كوسيلة لقمع المعارضة أو دعم المبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وباختصار، أوضح الرئيس أنه على الرغم من أنه والشعب الأميركي يتمنيان الديمقراطية والحرية للشعب المصري فإن المصالح الرئيسة مثل الوصول إلى قناة السويس والتعاون بشأن مكافحة الإرهاب والحفاظ على اتفاقيات كامب ديفيد هي الخط العام للسياسة الأميركية. * التصنيف أو عدم التصنيف * تساءل كثير في مصر والولايات المتحدة عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تدعم قرار مصر بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وهل ستتخذ الولايات المتحدة نفسها خطوة مماثلة؟ وربما يرى البعض في العالم العربي التردد الأميركي في تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية كدليل على تأييدها الضمني للجماعة مستدعيا إلى الأذهان خطاب أوباما في القاهرة في 2009. ومن جهة أخرى، هناك آخرون من ذوي الميول الإسلامية الذين يقولون إن قيادات الجيش المصري لا يمكنها توجيه مثل تلك الضربة للجماعة إلا بمباركة صريحة من واشنطن. ويقر أوباما بهذه الاتهامات المستمرة والمتناقضة في الخطاب الذي ألقاه بالأمم المتحدة قائلا: «لقد تعرضت أميركا للهجوم من قبل كافة أطراف النزاع الداخلي، حيث اتهمت في الوقت نفسه بدعم الإخوان المسلمين وبتدبير إبعادهم عن السلطة». ومع ذلك، فإن الحقيقة أبسط من هذه الخيالات الجامحة. ويصف هذه الحقيقة البسيطة كل من دانيال بينجامين الذي عمل كخبير في مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية في الفترة من 2009 إلى 2012 وستيفن سيمون المسؤول عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الفترة 2011 - 2012 باختصار في مقالهما الذي نشر بصحيفة «نيويورك تايمز» حيث يقولان: «لقد راقب القادة الأميركيون والأوروبيون عملية القمع بقدر من الانفصال نظرا لأنهم ليست لديهم أدوات للتأثير على قرار الجيش بالإضافة إلى أن النزاع يبدو نزاعا داخليا». ويحتاج هذا المنطق الأخير الذي جاء أيضا في تصريح أوباما (لقد اختارت الولايات المتحدة تجنب الانحياز لأحد الأطراف)، بعض التفسير، فمما لا شك فيه أن كافة الدول تتمتع بالاستقلال، وباستثناء حالات خاصة محددة عادة ما تتعامل تلك الدول مع العنف المتفشي لديها والاضطرابات كما ترى هي. وعلى الرغم من أن أميركا كانت واضحة تماما عندما ارتأت السياسات المصرية كارثية ولكن التوبيخ اللفظي لم يكن من الممكن أن يعمل في النهاية كرادع حقيقي للسلوكيات المصرية. وعلى نفس المنوال، فإن الولايات المتحدة لا تفترض أنها إذا صنفت مجموعة محددة كجماعة إرهابية، فإنه يصبح على جميع حلفائها أن يحذوا حذوها أو حتى يوافقوا على القرار. فقد لجأت الحكومة الانتقالية المصرية لهذا الإجراء للحد من تهديد ما وإقصاء منافس، مما يجعل القضية قضية داخلية تماما. * أدوات محدودة للتأثير على الجيش المصري * ومن جهة أخرى، يحتاج العامل الأول من بين العاملين (عدم وجود نفوذ للتأثير على الجيش المصري) إلى الكثير من الشرح. كيف حدث ذلك، كيف تراجع التحالف بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية إلى الحد الذي يجعل الولايات المتحدة لا تمتلك سوى أدوات محدودة للتأثير على الجيش؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسة: نظرية المؤامرة، وسياسة رد الفعل، والمال. لقد تراجعت الثقة بين الزعماء المصريين والأميركيين بسبب الشكوك بشأن مشاركة الولايات المتحدة في وضع جماعة الإخوان على رأس السلطة في مصر والاستمرار في تأييدها حتى اليوم. وهذا غير صحيح ببساطة ولا يحتاج أن نهدر الوقت في محاولة تفنيده. أما عن سياسة رد الفعل، فعلى الرغم من أنها جرى ذكرها من قبل فإنني سوف أشرحها بالتفصيل هنا. ففي إطار محاولاتها للبقاء وفية لحليفها الدائم – في إشارة إلى مصر ولكن إذا أردنا الوصول إلى حقائق الأمور فإن المقصود هو الجيش المصري - أعطت الولايات المتحدة انطباعا بأنها متغيرة ولا يمكن الوثوق بها. فسرعان ما تحول الدعم الأميركي طويل المدى لمبارك إلى دعم لمن خلعه بعد عدة أيام من اندلاع الثورة. وعلى الرغم من أن الدعم الأميركي اللاحق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والانتقال للحكم المدني كان مفهوما، فإنه لم يدم طويلا. وبعدها جاء التأييد الأميركي للانتخابات المصرية الذي تحول على نحو مثير للسخرية إلى تأييد مزعج لمرشح الإخوان المنتخب، محمد مرسي. وسرعان ما تراجعت تلك الحقيقة الجديدة أمام التأييد الأميركي الضمني لخلعه في أعقاب المطالب الشعبية بذلك. وجاءت نهاية ذلك الدعم الذي بدا لا نهائيا للعبة الكراسي الموسيقية المصرية في صورة التأييد الأميركي لسيطرة وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي على الأمور وإعادة تنظيمها. ولكن الولايات المتحدة اضطرت في النهاية أن تتخذ موقفا عندما استخدمت قوات الأمن وسائل عنيفة لإعادة فرض الأمن. ودفعت درجة العنف وإراقة الدماء الطائفية العديدين في الولايات المتحدة للتوقف والتساؤل حول ما إذا كان خلع مرسي يمثل انقلابا وهو ما يوجب على الولايات المتحدة قانونا أن تقطع المساعدات المقدمة لمصر أم لا. وقد خيب هذا النوع المستمر من الدعم الأميركي أمل العديدين في الولايات المتحدة تجاه مصر برمتها، وتصاعدت أصوات الدعوات المطالبة بسحب المساعدات الأميركية التي تقدم إلى البلاد المتعثرة. وعلى الصعيد المصري، بدأت أزمة الثقة العميقة تظهر داخل كافة المعسكرات المتصارعة بالاعتماد على فكرة بسيطة وهي إذا ما كان الأميركيون «يدعمونهم» فكيف يمكن أن «يدعمونا». ولم تعمل بعض الانتقادات الخليجية المتعلقة بأن أميركا تخلت عن مبارك بسرعة فائقة ونظريات المؤامرة حول التحالف الأميركي مع الإخوان إلا على تصعيد الأزمة. وفي الوقت نفسه، ما زال الأكاديميون وصناع السياسة في واشنطن ينتقدون إدارة أوباما لافتقارها أي نوع من السياسة الرسمية تجاه مصر ويدعون الإدارة إلى سرعة وضع سياسة متماسكة ومنطقية تجاهها. ويتعلق السبب الأخير لتراجع النفوذ الأميركي في مصر بالمال أو على نحو أكثر تحديدا بتعليق صفقة المساعدات الأميركية وبصفقة المساعدات الخليجية (الأكبر حجما والمجانية). فكنتيجة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية 1979، بدأت الولايات المتحدة تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية سنوية تقدر بمليارات الدولارات إلى مصر. هذا بالإضافة إلى التدريب والتبادل العسكري، الذي مثل عصب العلاقة الأميركية - المصرية التي استمرت لثلاثة عقود. ومع الوقت، أصبح ينظر إلى تلك الأموال ليس كمدفوعات للحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد فقط ولكن كذلك للحفاظ على عدد من القضايا المشتركة الأخرى. ومنذ سقوط مبارك، دعا بعض المصريين إلى رفض «الرشوة الأميركية». وبالمثل، دفع خلع محمد مرسي العديد من أعضاء الكونغرس الغاضبين إلى الإصرار على تعليق المساعدات الأميركية تطبيقا للقانون الأميركي. وفي النهاية، نجح الكونغرس في تحقيق مراده وقلصت الولايات المتحدة جزءا من صفقة المساعدات المقدمة لمصر والتي تصل إلى 1.55 مليار دولار أميركي في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 ضمن عدد من الإجراءات العقابية الأخرى. وقد كان لهذه الخطوة تأثير تنبأ به العديدون بمن فيهم أنا شخصيا؛ فلم يسفر فقط القرار عن زيادة التوتر في العلاقات بين الإدارة الأميركية والنظام العسكري المصري، ولكنه جاء أيضا متأخرا مما جعله يفتقر إلى الأثر المرجو منه وهو تحجيم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من عناصر المعارضة في البلاد. ومن جهة أخرى، تعهدت المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت بمساعدة مصر ماليا بعد الموقف الأميركي بما يقدر بنحو 12 مليار دولار، وهي الصفقة التي قزمت من الصفقة الأميركية، كما أنها تأتي دون أية شروط وجعلت زعماء الخليج يحصلون على انتباه الجيش المصري، وأصبحت الولايات المتحدة تقف في الصف انتظارا لدورها في لفت الانتباه. والأهم من ذلك هو أنه لم يكن العرب فقط هم من رحبوا بملء الفراغ الذي خلفته أميركا، بل بدأت روسيا أخيرا التفاوض على أكبر صفقة سلاح مع مصر منذ الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن قدرة مصر على سداد كلفة مثل تلك الصفقة الضخمة محل تساؤل ومن ثم فربما لا تتم الصفقة من الأساس، فإن ذلك التطور يعكس أن الولايات المتحدة لا تحتفظ بنفس القدر من النفوذ الذي كانت تمتلكه في الأيام الأولى من عام 2011. وقد بدأت بالفعل تداعيات تراجع الدور الأميركي في الظهور. فعلى سبيل المثال، قبل فترة وجيزة من تصنيفها كجماعة إرهابية، رفضت النخبة الحاكمة في مصر اختيار وزير الخارجية الأميركي للسفير الأميركي في مصر (روبرت فورد) الذي كان يعمل حتى وقت قريب سفيرا أميركيا في سوريا دون أن يقيم بها. ومن الواضح، أن النظام العسكري المصري رفض ترشح فورد نظرا لدعمه للمظاهرات المناهضة للأسد في الأيام الأولى للانتفاضة السورية (قبل أن يهيمن عليها الإسلاميون) واستعداده لاحقا للتفاوض مع المسلحين الإسلاميين في سوريا. ومن الواضح أن تأييد خلع نظام عسكري ودعم العديد من الإسلاميين في العديد من أنحاء المنطقة كان يعد خطا أحمر في المنطقة في تلك اللحظة. وما زال المنصب خاويا حتى هذه اللحظة نظرا للسحب المفاجئ للسفيرة الأميركية السابقة إلى مصر آن باترسون في أعقاب المزاعم المتعلقة بعلاقتها الوثيقة بمرسي وجماعة الإخوان بعد استيلاء الجيش المصري على السلطة. ويأتي خلو المنصب في الوقت الذي يحتاج فيه كلا البلدين لاستخدام وسيط ماهر للمساعدة على إعادة العلاقات لمسارها الصحيح. وتفسر ميشيل دون، الباحثة بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والعضو المؤسس لفريق عمل بشأن مصر – مبادرة غير حزبية تتضمن أكثر من عشرة من الأكاديميين والخبراء في الشأن المصري والسياسة الخارجية الأميركية - ذلك بأن منصب السفير يأتي كأحد أعراض الافتقار إلى الجدية في البيت الأبيض بشأن السياسة الخارجية. فعلى الرغم من أن معظم الاتصالات بين البلدين كانت تجري مباشرة بين هيغل والسيسي، فمن الحماقة ألا يكون هناك سفير أميركي في مصر. وفي ضوء العوامل التي ذكرت مسبقا والتي تحد من القدرة الأميركية على دفع التغيير في مصر، ليست هناك خيارات جيدة أمام الولايات المتحدة حاليا. ويشير دانييل بينجامين وستيفن سيمون إلى أن الولايات المتحدة تواجه حاليا احتمالية أن تخسر المزيد من النفوذ. حيث يقولان إن «الولايات المتحدة سوف تصبح في وضع يماثل ما كانت عليه أيام حكم مبارك الذي امتد لثلاثة عقود حيث تتعاون من كثب على مكافحة الإرهاب فيما تحاول الضغط من أجل الحريات». * مواجهة العدو المشترك أم تحويله إلى راديكالي * ومع ذلك فهناك أصوات ترغب في أن تقف الولايات المتحدة «إلى جانب مصر» وتعلن جماعة الإخوان جماعة إرهابية، سواء لأنهم يؤمنون بأنها كذلك أو كوسيلة لإصلاح العلاقات الثنائية، بالإضافة إلى وجود حملات شنها أناس عاديون قد قدمت التماسا للرئيس أوباما أن يصنف الإخوان كمنظمة إرهابية أجنبية. وقد حصل أحد تلك الالتماسات على أكثر من 200 ألف توقيع رغم أن البيت الأبيض لم يرد رسميا على هذا الالتماس حتى الآن. وعلى الرغم من أنه من المستبعد أن يجبر مثل هذا الالتماس الإدارة الأميركية على اتخاذ قرار، فهناك مناصرون أقوياء لتصنيف الجماعة كجماعة إرهابية أجنبية في واشنطن وسوف يبذلون مساعي من أجل ذلك. ومن جهة أخرى، هناك بعض النواب الجمهوريين مثل ستيفن كينغ ولوي جوهميرت وميشال باكمان الذين أعربوا بوضوح عن دعمهم للجيش المصري وإدانتهم لجماعة الإخوان المسلمين. ففي زيارة إلى مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي، أدلى الثلاثة بالعديد من التصريحات المثيرة للجدل والمؤيدة لمقاربة الجيش العنيفة تجاه الإخوان معربين عن إيمانهم بوجود عدو مشترك وهو الإرهابيون الذين ظهروا مؤخرا على هيئة الإخوان المسلمين. وبالنسبة لباكمان فالأمر أبسط من ذلك: «ليس لدينا خيار. فيجب هزيمتهم». ومن ثم لا يصبح مفاجئا أن تكتب باكمان قبل أيام من تصنيف مصر للجماعة مقالا في صحيفة مصرية يومية مؤيدة للقرار المتوقع. ففي المقال كتبت باكمان: «إذا ما كان قرار الحكومة الانتقالية المصرية أن تصنف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية فيجب أن تحذو الولايات المتحدة حذوها. مضيفة أن القرار يعد ذا ضرورة قصوى وينبع من تاريخ الجماعة الطويل من الإرهاب الذي جرى تجاهله لمدة طويلة». على أية حال، هناك ثلاث قضايا رئيسة تمنع الولايات المتحدة من الانضمام لمصر في حملتها ضد جماعة الإخوان المسلمين. أولا أن مصر لم تتخذ أي إجراء رسمي أو قانوني تجاه هذا التصنيف حيث إن هذا الإعلان لم يتجاوز الإدانة اللفظية. وثانيا، سيكون اتباع الولايات المتحدة لموقف مصر موقفا متسرعا، خاصة وأن مصر كانت تشهد تغيرات سريعة خلال الفترة الماضية. وثالثا، أظهر نظام الجيش في مصر بوضوح منذ يوليو (تموز) الماضي أن أفعاله ليست أقل عنفا من تلك التي تقترفها جماعة الإخوان المسلمين. فخلال الأشهر السبعة الماضية، قتل النظام ما يزيد على 1100 شخص وسجن الآلاف لمدة لا يعرف أحد مداها وفقا للمحامين الذين يطالبون المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق. وفي الحقيقة، أصبح الوضع في مصر أقل استقرارا الآن مما كان عليه في يوليو نظرا للتفجيرات اليومية والاقتصاد المتعثر. ويقول بعض المحللين إن الولايات المتحدة سوف تخاطر إذا ما ألقت بثقلها على قيادة لم تثبت حتى الآن أنها باقية في السلطة. بالإضافة إلى أن العديدين في واشنطن قلقون بشأن احتمالية أن يخلق سلوك الجيش إرهابيين بدلا من أن يحاربهم. ويحذر كل من دانييل بينجامين وستيفن سيمون من أن هذا المنحى ضد الإخوان «ربما يتضح لاحقا أنه كان خطأ فادحا وهو الدرس المستفاد من التاريخ: حيث دائما كان مزيج القمع والإقصاء السياسي يدفع إلى نشأة الجماعات الراديكالية». ويضيف الباحثان أن «الحرب ضد الإخوان سوف تجعل العنف هو الخيار العقلاني الوحيد أمام من لم ينخرطوا بالفعل فيه». ويضيف إريك تريغر، زميل إيثر واغنر بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وصوت مؤثر في السياسة الأميركية تجاه جماعة الإخوان أنه في ظل حملة الاعتقالات وحل الجماعة وتصنيفها جماعة إرهابية «وهي الجماعة التي تعد أكثر الجماعات الإسلامية تماسكا في مصر.. حول الجنرالات مئات الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين إلى راديكاليين لن يصغوا بعد ذلك إلى قياداتهم الأكثر حذرا». وإذا ما أعدت قراءة تصريحات كيري وهيغل الحذرة في ظل تلك الخلفية سوف تبدو أكثر منطقية. وفى المحصلة، بدلا من أن تهدر الأصوات العاقلة في واشنطن طاقتها في الجدل بشأن ما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية أم لا، فإنها يجب أن تضغط للتنمية على المستوى البعيد ووضع سياسة أميركية مستدامة صوب مصر. ولتحقيق مثل تلك السياسة، سوف يحتاج البيت الأبيض لأن يولي اهتماما بصديقه السابق على الرغم من ضغط الآخرين سواء في الداخل أو الخارج؛ حيث تقتضي المصالح الأميركية الرئيسة في المنطقة ذلك. وكما يقول ميشال دون: «إذا ما كانت الولايات المتحدة ترغب في أن تصبح مصر شريكا أمنيا مستقرا وشريكا مستقرا في عملية السلام فيجب أن تهتم بما يحدث حاليا في مصر». * مديرة برنامج الشرق الأوسط في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا

السعودية في مواجهة الإرهاب

$
0
0
عانت السعودية من الإرهاب وجرائمه كثيرا، وكبدها ذلك خسائر من أرواح أبنائها وشبابها، لكنها واجهته بحزم وقوة، وصبر وإصرار، فهزمته وانتصرت عليه، وأصبحت نموذجا يدرس وتجربة تحتذيها الدول في مكافحة الإرهاب. اتخذت السعودية في حربها الطويلة مع الإرهاب، جهودا وخططا متوازية لم تقتصر على الجانب الأمني فقط، بل ترافق معها مشاريع فكرية واجتماعية وتوعوية، ولجان مناصحة واحتواء ورعاية للمغرر بهم من ضحايا جماعات التطرف، كما سنت عددا من التشريعات القانونية، والقضائية التي تسهم في حماية المجتمع من آثار هذه الظاهرة وتقضي عليها. خلال خطابه بمناسبة عيد الفطر، في أغسطس (آب) الماضي، أكد خادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية، التزام المملكة بمكافحة الإرهاب الدولي، داعيا الأمة الإسلامية لـ«الصمود في وجه دعاة التحريض والتضليل والضلال الذين يسعون لتشويه سمعة الإسلام». وتأكيدا وإنفاذا لهذا العزم، قرر العاهل السعودي وفي أمر ملكي حازم - مطلع شهر فبراير (شباط) - تجريم كل من يشارك في الأعمال القتالية خارج المملكة من السعوديين، وسن قوانين للمعاقبة بالسجن على من يثبت في حقه المشاركة مع التنظيمات الإرهابية، سواء بالعمل المباشر أو الدعم المادي أو المعنوي. يأتي هذا القرار بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، وملايين القتلى والجرحى والمهجرين والمشردين والمفقودين السوريين، ومنذ بداية الأزمة السوداء في سوريا، والسعودية تقرع أجراس الخطر، وتنبه العالم لخطر الإهمال والتسويف، خوفا من تحول سوريا لمركز جاذب للإرهابيين بسبب عجز العالم عن حل المشكلة. لكن لم يصغ أحد. وصل الخطر إلى نسيج المجتمعات العربية ومنها السعودية، واتخذ دعاة التطرف وأنصار الجماعات الدينية الدموية كـ«داعش» و«النصرة» من الساحة السورية مسرحا للتجنيد والتعبئة. هنا كان الأمر الملكي السعودي الأخير، حازما وحاسما في قطع الطريق على من يريد المتاجرة بعواطف السعوديين تجاه مأساة الشعب السوري، أو حرف قضية السوريين عن مسارها الوطني الإنساني إلى مسار متطرف مغامر، يريد إشعال الحرب الدينية في كل مكان. خلف هؤلاء المنضوين في جماعتي «داعش» و«النصرة» في سوريا، وأمثالهما في اليمن وأفغانستان والصحراء الكبرى وسيناء مصر، عمق ممتد في المجتمعات من ممولين ومجندين ومروجين للدعاية. كان لا بد من مواجهة هؤلاء، ليس بالتلميح في فتاوى علماء الدين المناهضين لهذه الجماعات فقط، بل كان لا بد - مع هذا - من وضع مسطرة قانونية واضحة، ورسم خط بيّن على الأرض يعاقب من تعداه. الأمر الملكي واضح وهو ينص على أنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على 20 سنة، كل من شارك - كائنا من كان - في القتال الخارجي أو انتمى للجماعات المتطرفة أو دعمها بالتمويل أو الدعاية أو ساهم معها بأي صفة. وإذا كان الفاعل لهذا من القوات العسكرية فتكون العقوبة أغلظ. ومن أجل رسم خط فاصل للناس على الأرض وجّه الأمر الملكي بتشكيل لجنة حكومية تشترك فيها عدة وزارات مع الادعاء العام وديوان المظالم، تعد قائمة، يعتمدها النظر الملكي، تحدث دوريا بهذه التيارات والجماعات. السعودية هي صاحبة مبادرة المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، وهي صاحبة الجهود المؤثرة على مستوى العالم، من خلال التعاون الأمني الاستخباري، والسياسي، لمكافحة جماعات الإرهاب الديني، بسبب الخوف على استقرار السعودية، وبسبب الخوف على سمعة الإسلام أيضا، وبسبب الخوف على الاستقرار في الإقليم والعالم. السعودية حين تكافح الإرهاب وجماعات التطرف داخليا وخارجيا، فهي تمثل نهجها وتتمثل ذاتها، وليست تناور بورقة الإرهاب كما يفعل غيرها. ولأجل ذلك، سنت السعودية إجراءات ومشاريع شاملة لمواجهة قوى التطرف على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. فعلى المستوى المحلي حاربت المملكة الإرهاب من خلال خطين متوازيين هما المعالجة الأمنية والمعالجة الوقائية الفكرية. في مستوى المعالجة الأمنية سجلت السلطات الأمنية إنجازات غير مسبوقة تمثلت في الضربات الاستباقية وإفشال أكثر من 95 في المائة من العمليات الإرهابية، ثم اختراق الدائرة الثانية لأصحاب الفكر الضال، وهم المتعاطفون والممولون للإرهاب الذين لا يقلون خطورة عن المنفذين للعمليات الإرهابية فتم القبض على الكثير منهم. ولهذا يؤكد كثير من المراقبين، أن تجربة المملكة في مكافحة الإرهاب وكشف المخططات الإرهابية قبل تنفيذها عكست تفوقا غير مسبوق يسجل للسعودية سبقت إليه دولا متقدمة كثيرة عانت من الإرهاب عقودا طويلة. وفيما يتصل بالمعالجة الوقائية شكلت وزارة الداخلية السعودية (لجنة المناصحة) وهي لجنة شرعية تتكون من العلماء والدعاة والمفكرين بهدف تصحيح المفاهيم الخاطئة والمغلوطة لدى الموقوفين، فكان إنشاء (مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية) الذي يهدف لكشف الشبهات وتوضيح المنزلقات الفكرية التي يتبناها أصحاب الفكر المنحرف الذي يقود إلى الإرهاب من أجل إعادة الموقوفين إلى رشدهم وتصحيح مفاهيمهم من خلال الاستعانة بعلماء الشريعة والمختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية والمثقفين ورجال الأعمال وإتاحة الفرصة لهم لمقابلة هذه الفئة ومناقشتهم بكل حرية والرد على شبهاتهم وانتهاج أسلوب الحوار والإقناع مع بعض أتباع هذا الفكر، وتغيير الكثير من القناعات السابقة لديهم وعرض هذه التراجعات عبر وسائل الإعلام. وتشكلت المحاور الرئيسة التي انتهجتها المملكة في محاربة الإرهاب على خمسة محاور مهمة، وهي: - تفنيد حججهم الفكرية. - محاصرة منافذ التبشير بأفكارهم. - تجفيف منابع تجنيدهم للأتباع وإغلاق مصادرهم في التمويل. - تفكيك شبكاتهم القائمة، من خلال المبادرة بعمليات نوعية استباقية لإجهاض خلاياهم النشطة والنائمة. - الاحتواء الإنساني بإعادة تأهيل المغرر بهم. ولعل أبرز ما تحقق في هذا السياق تراجع الكثير من المنظرين للفكر التكفيري المنحرف عن فتاواهم التي استندت عليها عناصر الفئة الضالة في القيام بأعمالها الإجرامية وأكدوا أن فتاواهم تلك خاطئة وتراجعوا عنها وأعلنوا توبتهم. وفي سياق الجهود العلمية والدولية، نظمت المملكة بالتزامن مع المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب حملة التضامن الوطني لمكافحة الإرهاب في مختلف مناطق المملكة دامت أسبوعا كاملا شاركت فيها جميع القطاعات التعليمية والأمنية وهدفت إلى زيادة الوعي العام في دعم التعاون بين أفراد المجتمع السعودي للتصدي للعمليات الإرهابية وتعزيز الانتماء للوطن والدفاع عنه ومكافحة الغلو والتطرف. وأصدرت المملكة جملة من الأنظمة والتعليمات واللوائح لاستخدام شبكة الإنترنت والاشتراك فيها بهدف مواجهة الاعتداءات الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني إضافة إلى تنظيم الجهات المعنية دورات تدريبية كثيرة عن موضوع مكافحة جرائم الحاسب الآلي لتنمية معارف العاملين في مجال مكافحة الجرائم التي ترتكب عن طريق الحاسب الآلي وتحديد أنواعها. ولأجل إعادة تنظيم جمع التبرعات للأعمال الخيرية التي قد تستغل لغير الأعمال المشروعة قامت بإنشاء هيئة أهلية كبرى تتولى الإشراف والتنظيم على جميع الأعمال الإغاثية والخيرية بهدف تنظيم عمل تلك الهيئات حتى لا تذهب هذه الأموال والتبرعات لجماعات إرهابية. كما يبرز المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي دعت إليه المملكة وعقد بمدينة الرياض أوائل شهر فبراير عام 2005م واحدا من الجهود الدائبة للمملكة في مكافحة هذه الآفة العالمية في إطار دولي وجانب من جوانب عمل المملكة المستمر في محاربة الإرهاب، حيث ترى المملكة دائما أن القضاء على الإرهاب لن يجري إلا بتعاون دولي في استئصال جذوره ومعالجة أسبابه. وبذلت المملكة جهودها لإنجاح المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب إيمانا منها بأن المؤتمر يمثل عزم الأسرة الدولية للقضاء على الإرهاب. وعلى مستوى التشريع والقضاء، تم إنشاء محكمة خاصة للنظر في قضايا الإرهاب تحت اسم المحكمة الجزائية المتخصصة، كذلك استحداث دائرة مختصة بهيئة التحقيق والادعاء العام تحت اسم «دائرة قضايا أمن الدولة» لتتولى التعامل مع مثل هذه القضايا وتوفير جميع الضمانات التي توفر للمتهمين في قضايا الإرهاب وتمويله محاكمة عادلة بما في ذلك حقهم في الدفاع عن أنفسهم وتعويض من تثبت براءته منهم. كما أقر مجلس الوزراء السعودي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي نظام «مكافحة الإرهاب وتمويله»، وهو يعد نظاما إجرائيا أُخذ فيه بمبدأ التوازن بين الأخطار التي تؤول إليها تلك الجرائم، وحماية حقوق الإنسان التي حفظتها وأكدت عليها الشريعة الإسلامية. وحدد النظام - بشكل دقيق - المراد بالجريمة الإرهابية بأنها «كل فعل يقوم به الجاني تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بشكل مباشر أو غير مباشر، يُقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة، أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر، أو تعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، أو الإساءة إلى سمعة الدولة أو مكانتها، أو إلحاق الضرر بأحد مرافق الدولة أو مواردها الطبيعية، أو محاولة إرغام إحدى سلطاتها على القيام بعمل ما أو الامتناع عنه، أو التهديد بتنفيذ أعمال تؤدي إلى المقاصد المذكورة أو التحريض عليها. كما حدد النظام الإجراءات اللازمة والضمانات الواجبة عند التعامل مع كل من يُشتبه في ارتكابه جريمة إرهابية أو تمويلها، ومن أبرز هذه الإجراءات والضمانات، تخويل وزير الداخلية بإيقاف إجراءات الاتهام تجاه من بادر بالإبلاغ عن إحدى الجرائم الواردة في النظام - قبل البدء في تنفيذها - وتعاون مع السلطات المختصة أثناء التحقيق للقبض على مرتكبيها أو على غيرهم ممن لهم صلة بجريمة مماثلة في النوع أو الخطورة، وخول النظام كذلك وزير الداخلية بالإفراج عن الموقوف أو المحكوم عليه أثناء تنفيذ العقوبة. جهود السعودية الحثيثة في محاربة الإرهاب، قادت الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2011 إلى التوقيع على اتفاقية تأسيس «مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب» بين السعودية ومنظمة الأمم المتحدة، بمساهمة من المملكة بمبلغ عشرة ملايين دولار للتمويل في تأسيس المركز لتؤكد أن الإرهاب لا دين له ولا يمثل الدين أو المجتمع الذي ينتمي إليه الإرهابيون. وأن المملكة من أوائل الدول تصديا للإرهاب على مختلف الصعد محليا وإقليميا ودوليا قولا وعملا، فضلا عن أنه تأكيد على اهتمام المملكة بالمساهمة في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب كظاهرة خطيرة تتعارض مع جميع القيم والمبادئ الإنسانية والشرائع السماوية.

إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة

$
0
0
يبدو أن حالة النكران التي كان من الواضح أنها تهيمن على تقييم معظم القادة الأميركيين والأوروبيين لوضع تنظيم القاعدة خلال السنوات الثلاث الماضية قد انتهت؛ فقد أشار اثنان من كبار المسؤولين بالاستخبارات الأميركية خلال الشهر الماضي بوضوح أمام الكونغرس إلى أن التنظيم يشهد تحولا جذريا حيث تتزايد الجماعات التابعة له ويوسع نفوذه على الساحة العالمية. وبالمثل، تحدث رئيس المخابرات البريطانية الخارجية (إم آي 6)، جون سويرز، إلى البرلمان البريطاني قائلا: «علينا التعامل مع بزوغ تنظيم القاعدة وإنشائه لأفرع جديدة في عدد من البلدان الجديدة»، مضيفا: «ليس هناك أدنى شك أن الخطر يتزايد». مما لا شك فيه أن هذه التقييمات مختلفة تماما عن النبرة التي كنا نستمع إليها قبل سنة على كلا جانبي الأطلسي، فقد ظهر الخطاب الذي يروج إلى أفول نجم تنظيم القاعدة في العواصم الغربية في بداية عام 2011، حيث بثت الشهور الأولى لما يطلق عليه الربيع العربي الأمل في نفوس المراقبين الغربيين وهم يشهدون آلاف المتظاهرين في أنحاء العالم العربي يقاتلون من أجل الديمقراطية ولا يتبنون شعارات «القاعدة» أو مثلها. وكانوا يقولون إن رسالة «القاعدة» منيت أخيرا بالهزيمة، مؤكدين أن الديمقراطيات التي ستبزغ من رماد الأنظمة الطغيانية لمبارك وبن علي والقذافي سوف تدفع العرب والمسلمين بعيدا عن قيم ذلك التنظيم. بالإضافة إلى أن مقتل أسامة بن لادن في مايو (أيار) 2011 عزز ذلك الخطاب الحالم، حيث نظر إلى الواقعة باعتبارها المسمار الأخير الذي جرى دقه في نعش «القاعدة». ووفقا لهذا الخطاب، لم يمن التنظيم فقط بالهزيمة على المستوى الآيديولوجي عبر خروج جماهير المسلمين إلى الميادين للمطالبة السلمية بالديمقراطية. ولكن التنظيم أصبح أيضا على المحك حيث لم يعد بإمكان قياداته تنفيذ أي هجمات مؤثرة، بل إنهم أصبحوا يختبئون لحماية أنفسهم. وبناء عليه فإن الحرب على الإرهاب (الذي أصبح ينظر إليه باعتباره مصطلحا بائدا وعتيق الطراز) يمكن أن يستبدل بها عمليات متفرقة محدودة النطاق تستهدف أفرادا أو جماعات محددة؛ فقد كان الغرب الذي رزح تحت وطأة عقد كامل من المواجهات العسكرية والسياسية تواقا لتقليل خطر إرهاب «القاعدة» إلى المستوى الذي كان عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والذي كان يقتصر على كونه إزعاجا ومسألة تتعلق بإنفاذ القانون ليس لها سوى أهمية ثانوية. وتزعم أوباما، الذي كان دائما ما يعرب عن انتقاده الواضح لرد الفعل الأميركي المبالغ فيه في أعقاب هجمات 11-9 ويؤكد على رغبته في توجيه الاهتمام إلى الاقتصاد المحلي والأجندة الاجتماعية، ذلك الاتجاه. وبالمثل كان الأوروبيون الذين تأثروا على نحو أكبر بالأزمة المالية والتوترات الناجمة عن الحرب على الإرهاب داخل جالياتهم المسلمة، تواقين لتقليل أهمية القضية. القوى المرتبطة بـتنظيم القاعدة ومع ذلك، حذر الكثيرون، بداية من وكالات الاستخبارات الغربية وصولا إلى القيادات العربية، من ذلك التفكير الحالم، وأثبتت أحداث العام ونصف العام الماضي أنهم كانوا محقين في تلك التحذيرات. ومع ذلك، حاول المسؤولون الأميركيون تصوير حقيقة أن القوى المرتبطة بـ«القاعدة» تستحوذ على مساحات واسعة من الأراضي في الصحراء الكبرى واليمن باعتبارها نكسات مؤقتة للربيع العربي. كما حاولوا أيضا التقليل من شأن هجمات سبتمبر 2012 على القنصلية الأميركية في بنغازي التي أسفرت عن مقتل السفير ستيفنز باعتبارها أعمال شغب عفوية ضد فيلم مسيء للإسلام. ولكن تلك الحالة من النكران لم تعد قابلة للاستمرار في ظل الأخبار التي تتردد يوميا من جميع أنحاء العالم والتي تؤكد أن تنظيم القاعدة في حالة تعاف. والحقيقة هي أن تنظيم القاعدة يشهد ازدهارا يمتد جغرافيًّا من السواحل الأطلسية لأفريقيا ويمتد إلى كبرى مدن باكستان بالإضافة إلى بعض المناطق المتفرقة في الغرب. وربما تكون أكبر المكاسب التي حققها التنظيم تلك التي كانت في القارة الأفريقية، حيث تنشط الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة» في المثلث العملاق الذي تحده من الشرق سيناء وتنزانيا، وتحده نيجيريا وموريتانيا من الغرب. فقد تمكنت الكثير من الجماعات الجهادية من توسيع نشاطاتها في تلك الحدود الواسعة والغامضة التي لا تحظى بحماية أمنية، مستفيدة من الاضطرابات السياسية والفقر والموارد المحدودة للحكومات التي تهددها. ورغم هزيمتها على يد الجيش الفرنسي في مالي، ما زال تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وفروعه يجوب أنحاء الصحراء الأفريقية محققا المكاسب من الكثير من الأنشطة غير القانونية، ومدد الأسلحة الليبية الذي سهل الحصول عليه بعد سقوط القذافي. وقد أظهر هجوم يناير (كانون الثاني) 2013 على مجمع البترول بأميناس بوضوح أنه حتى أقوى الدول بالمنطقة، وهي الجزائر، يمكنها أن تتعرض لضربات حادة من التنظيم. وبالمثل، كانت الحكومة التونسية تخوض معركة شرسة ضد الميليشيات الجهادية العاملة في الجبال. وبالاتجاه شرقا، نجد الكثير من الميليشيات الجهادية التي تمارس نفوذا قويا في جميع أنحاء ليبيا خاصة في منطقة «درنة» وتمثل خطرا جديا على الحكومة الوطنية الهشة. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الجماعات الجهادية تعزز أنشطتها في مصر، حيث لم تعد تهاجم فقط المنشآت الحكومية، ولكن أنشطتها امتدت إلى السائحين في إعادة إنتاج للآليات الكارثية التي كانت تمارسها في التسعينات من القرن الماضي. وفي أفريقيا جنوب الصحراء، تمثل آليات التنظيم القدر نفسه من الخطر. فرغم أن حركة الشباب لم تعد تسيطر على مقديشو وقطاعات واسعة من البلاد فإنها ما زالت قادرة على أن تمثل خطرا محدقا سواء داخل الصومال وفي الدول المجاورة (كما حدث في هجوم سبتمبر 2013 على المركز التجاري «وستجيت» بنيروبي). وفي نيجيريا، يبدو أن السلطات غير قادرة على السيطرة على «بوكو حرام» وعمليات القتل الواسعة التي تمارسها ضد المدنيين المسلمين والمسيحيين. * «القاعدة القديمة» * وليس من الصواب أن ننظر إلى كل هذه الجماعات باعتبارها تابعة لتنظيم القاعدة، حيث إن درجة ولاء تلك الجماعات للتنظيم الذي يقوده حاليا أيمن الظواهري تتفاوت إلى حد كبير، كما أن لكل منها أجندتها المحلية التي تعتمد على تكتيكات مختلفة. ولكن في الوقت نفسه، تتعاون تلك الجماعات من وقت لآخر بعضها مع بعض كما تتبنى جميعها آيديولوجيا التنظيم ورؤيته العالمية. ويبدو أن عدم القدرة على استيعاب هذه الفكرة الأخيرة هو ما دفع الكثيرين في الغرب إلى تبني الرؤية المتفائلة المتعلقة بأفول تنظيم القاعدة. وبالفعل، وكما كان أوباما يكرر بحماس لسنوات طويلة، فإن تنظيم القاعدة في حالة تراجع. ولكن ذلك صحيح فقط فيما يتعلق بـ«القاعدة القديمة»؛ تلك الجماعة المنظمة التي نفذت عمليات 11-9 والتي تعرضت لأزمة كبرى إثر عدد لا يحصى من عمليات القوات الخاصة وهجمات الدرون في أفغانستان وباكستان. ولكن سيكون من الحمق أن نتجاهل حقيقة أن «القاعدة الجديدة» هي لغم غير مركزي من الجماعات الحرة التي تتبنى آيديولوجيا «القاعدة» وترى نفسها جزءا من الحركة العالمية التي يبدو أيضا أن الظواهري لا يملك سوى قدر محدود من السيطرة عليها. وفي هذا السياق يمكننا القول إن تنظيم القاعدة في طريقه إلى الأفول، ولكن «القاعدية» في طريقها للازدهار. ورغم أن البعض يرى أن انعدام القيادة المركزية هو أحد دلالات ضعف التنظيم، يبدو أن الجهاديين لا ينظرون للأمر على النحو نفسه؛ ففي عام 2000، قال أبو مصعب السوري، الذي يعد أحد أهم المنظرين للحركة الجهادية خلال السنوات العشرين الماضية، إن تنظيم القاعدة ينظر إليه ككيان مؤقت، حيث إن وجوده مؤقت بغرض خلق المزيد من الجماعات الجهادية المستقلة في جميع أنحاء العالم، مضيفا: «القاعدة ليس تنظيما، وليست جماعة، ونحن لا نريدها كذلك. القاعدة دعوة ومرجع ومنهج». وعلى نحو ما، جرى تحقيق ذلك الهدف؛ حيث إن كل جماعة تعمل تحت مظلة «القاعدة» تتحرك محليا وتفكر عالميا وتركز معظم قواها على قتال الأعداء المحليين، ولكنها في الوقت نفسه تشن هجمات على المصالح الغربية وتتبنى فكرة إنشاء الدولة الإسلامية العالمية. ويبدو أن تأسيس الدولة، على الأقل على المستوى المحلي، هو هدف كل الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة. وفعليا، أشار الظواهري في كتابه الصادر في عام 2011 تحت عنوان «فرسان تحت راية النبي» إلى تأسيس الدولة باعتباره أكثر الأهداف الاستراتيجية أهمية بالنسبة لتنظيم القاعدة. وخلال السنوات القليلة الماضية في الصومال وشمال مالي، وفي مقاطعة أبين اليمنية، كلما سنحت فرصة نتيجة الفراغ السياسي، استحوذت الجماعات الجهادية على بعض المناطق وأعلنت على الفور تشكيل إمارة بها. ولتحقيق ذلك الهدف، تحولت الكثير من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة من كونها جماعات إرهابية تعمل عبر خلايا صغيرة تختبئ في الكهوف أو في المباني السكنية إلى قوات منظمة شبه عسكرية تشارك في التمرد. واليوم، وبفضل عملية التحول تلك وضعف القوى التي تواجهها، تمكنت القوات الجهادية من السيطرة على مساحات من الأراضي أكثر مما حدث في أي وقت سابق. وفي الوقت نفسه، يبدو أن كل تلك الجماعات ترتكب الخطأ نفسه، ففور تمكنها من السيطرة على مساحة من الأراضي، سرعان ما تفقد تلك الجماعات الدعم الذي كانت تحظى به في البداية من السكان المحليين نظرا لفرضها تطبيق تفسيرها المتشدد من الشريعة بالقبضة الحديدية. وكان ذلك الخطأ، الذي جعل تنظيم القاعدة يفقد دعم القبائل السنية في الأنبار في 2006، يتكرر مرارا وتكرارا. وكان آخر تكرار لذلك الخطأ هو ما حدث في شمال سوريا حيث أدت الأساليب الوحشية التي اتبعتها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ليس فقط إلى إثارة غضب الشعب السوري لها، بل حتى الجماعات الأخرى التابعة لتنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة والظواهري نفسه. * أخطاء الماضي * ومن جهة أخرى، أثبت التاريخ أن الحركات الجهادية العالمية قادرة على التكيف والوعي بأخطاء الماضي؛ فقد كشفت الوثائق التي كشف عنها بعد سقوط مدينة تمبكتو المالية العام الماضي عن أن قيادة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي كانت تجري تحليلا استراتيجيا نقديا للأخطاء التي ارتكبتها في محاولتها تأسيس دولة في مالي؛ حيث كتب زعيم التنظيم أبو مصعب عبد الودود حول الدولة الإسلامية: «إن الطفل الحالي ما زال في الأيام الأولى يحبو ولم يقف بعد على قدميه. فإذا ما أردنا لذلك المولود أن يقف على قدميه في هذا العالم الذي يعج بالأعداء الذين يتحينون فرصة للقضاء عليه يجب أن نخفف أعباءه ونأخذ بيديه ونساعده وندعمه حتى يتمكن من الوقوف». ثم سرعان ما تبنت الجماعة توجها أكثر حنكة فيما يتعلق بالحوكمة والشريعة. وبالمثل، فإن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية كان يحاول منذ زمن بعيد تأسيس علاقات طيبة مع الكثير من القبائل اليمنية خاصة عبر الزواج. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي وفي محاولة واضحة لتحسين صورتها بعد الكثير من الزلات، أعلنت الجماعة عن اعتذارها الرسمي عن مقتل المدنيين في الهجوم الذي شنته على المستشفى الملحق بوزارة الدفاع اليمنية. لقد أقر الغرب أخيرا بأن تلك التطورات تعني أن تنظيم القاعدة لم ينهزم سواء على المستوى الآيديولوجي أو العملياتي، بل إنه غير شكله فقط إلى صورة مختلفة وربما أكثر خطورة. وأصبح من الواضح أن بعض الحركات التابعة للتنظيم تمثل خطرا وجوديا لمصالح الغرب وبعض حلفائه الرئيسين في العالم الإسلامي. كما أصبح من الواضح أن الأمن القومي للغرب ما زال معرضا للخطر، سواء خطر الأفراد الذين لا تربطهم صلة عملياتية بالجماعات التابعة لـ«القاعدة» ولكنهم يتبنون آيديولوجيتها (كما يتضح من حالة الإخوة تسارنييف المسؤولين عن العمليات التفجيرية بماراثون بوسطن) أو من الأفراد الذين يعودون للغرب بعد القتال إلى جانب الجماعات الجهادية (وهو ما يمكن أن يحدث بالنسبة لنحو ألفي أوروبي يقاتلون حاليا في سوريا). ولن تتحسن قدرة الغرب على التقييم الصحيح لوضع تنظيم القاعدة إلا إذا قلل من الاهتمام الذي يوليه لتكتيكات الجماعة وركز على المناحي الآيديولوجية للحركة. وكما قال السوري، فإن جوهر «القاعدة» لا يعتمد على الأسلحة والتكتيكات العسكرية ولكنه يعتمد على الآيديولوجيا. وكما قال مايك روجرز، رئيس لجنة الاستخبارات الأميركية بمجلس النواب الأميركي والمنتقد الشرس لمقاربة إدارة أوباما تجاه الإرهاب، «فإن هزيمة الآيديولوجيا تتطلب ما هو أكثر من الهجمات بالدرون». * باحث وكاتب إيطالي، خبير أكاديمي وأمني متخصص في الإسلام والعنف السياسي في أوروبا وشمال أميرك

القوة الناعمة .. بديلا للسياسة القوة الناعمة .. بديلا للسياسة

$
0
0
للتصنيف أهمية كبرى بالنسبة للراديو والتلفزيون الهادفين للربح، نظرا لأن حجم الجمهور يحدد سعر وقت البث الذي يقدمه الرعاة. لكن هل للتصنيف أهمية بالنسبة للإذاعات الأجنبية التي تدعمها الحكومات التي لا تعتمد على بيع الإعلانات؟ في واشنطن، تتلقى قناة «الحرة» التي تبث باللغة العربية وشقيقتها شبكة «راديو سوا»، تمويلا من الكونغرس الأميركي بهدف تقديم أميركا إلى العالم العربي. وتعمل كلتاهما على نشر تقرير سنوي لتقييم الأداء، يقيس نجاحهما بالاعتماد على «مدى الوصول الأسبوعي إلى الجماهير»، يقدر، حاليا، بنحو 35.5 مليون نسمة. وتستمد كلتاهما البيانات من شركة الأبحاث، منظمة غالوب، بالإضافة إلى التحليلات من مؤسسة نيلسون التي تقوم، أيضا، بمتابعة برنامج «صنداي نايت فوتبول» وعدد الأميركيين الذين يلعبون ألعاب الفيديو. * إذاعة الصين الدولية وعلى الأرجح لن تولي الشركات التي تجري الاستقصاءات، اهتماما بالبرنامج الوثائقي الذي يمتد لنحو 45 دقيقة، حول الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس الذي أذيع العام الماضي، على القسم العربي للإذاعة الصينية «إذاعة الصين الدولية»؛ إذ ربما قارب من استمعوا إليه الخمسة آلاف مستمع، عبر الموقع الإلكتروني للإذاعة، بالإضافة إلى الكثير من المتحمسين الذين تمكنوا من التقاط الموجات القصيرة من مصدرها في ألبانيا. ووظف البرنامج موسيقى تصويرية باستخدام الآلات الإلكترونية، وسيناريو هزيلا، بالإضافة إلى لقاءات مع أساتذة لغة صينية في دولتين عربيتين، وفواصل موسيقية قدمها عازف «راب» من بكين، لم يترجم ما يقوله؛ حيث كان يلقي المقاطع باللغة الصينية، وإجمالا لم يقدم البرنامج تقريبا أي معلومات حول كونفوشيوس. لكن تقييم برنامج «إذاعة الصين الدولية» من خلال المعايير التي تعتمد عليها مؤسسة مثل نيلسون، يفتقر إلى الدقة؛ فقد طورت الحكومة الصينية استراتيجية للتواصل الثقافي مع العالم العربي، لا تعني بتصنيف البرنامج بقدر ما تولي اهتماما لمن يستمع، حيث يأتي تقديم المحتوى في الراديو أو التلفزيون ضمن جهود أوسع لجذب عدد أكبر من العرب في البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية لبكين، الذين سوف يعملون بأنفسهم كموفدين وممثلين لوسائل الإعلام وللمجتمع بأسره. وبمساعدتهم، تسعى الصين إلى الوصول إلى قطاع أوسع من الجماهير عبر قنوات البث الأصلية في المنطقة التي لا تستطيع القنوات الأجنبية منافستها. وتدعم تلك التجربة بدورها حملة «قوى ناعمة» لتعديل النسيج الثقافي للمنطقة بما يخدم المصالح الصينية. * نافذة على المشاهدين في 21 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حققت وسائل الإعلام الصينية نجاحا غير مسبوق في التواصل مع الشرق الأوسط، من خلال تقديم مسلسل درامي كوميدي صيني يتكون من 40 حلقة، جرت دبلجته باللغة العربية، وإذاعته على القناة الثانية بالتلفزيون الرسمي لجمهورية مصر العربية. ويروي مسلسل «حياة سعيدة»، قصة طبيب من بكين، يتحدر من أصول ريفية متواضعة، يقع في حب فتاة من الطبقة الراقية، فيما يعارض أهلها ذلك الحب. وجاء قرار بث حلقات المسلسل في مصر، بعد توقيع بروتوكول بين الحكومة الصينية واتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري التابع لوزارة الإعلام. وكان الغرض المعلن لهذا البروتوكول، هو توفير أرضية شعبية لتحالف أقوى بين البلدين. وتمنح الصين اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، الحق في بث المسلسل مجانا، كما أنها غطّت تكاليف الترجمة والدوبلاج. وأدلت وزيرة الإعلام المصرية، درية شرف الدين، بحديث إلى الإذاعة الصينية، خلال زيارتها سفارة الصين في القاهرة، للاحتفال بالعرض، فقالت: إن حكومتها تأمل أن يعزز ذلك التواصل الشعبي مع الصين، مما يساهم في تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية، مضيفة أن «الإعلام أصبح صانعا للسياسات والأحداث بعدما كان ناقلا لها». وكان هذا الإنجاز المهم الذي حققه المسلسل بالنسبة لبكين، يجري الإعداد له منذ سنوات؛ حيث سبقته سلسلة طويلة من المكاسب المحدودة على مستوى التواصل مع البلدان العربية، لا يمكن الاعتداد بأي منها، إذا ما جرى النظر إليها بمعزل عن الأخرى. ولكن إذا ما جرى فحص عدد من تلك الخطوات معا، أمكن رصد نمط مركب من التفكير والتخطيط، يعبر عن قوى عظمى حديثة ذات تقاليد عريقة، تحاول التواصل مع مجتمع عريق آخر يعج تحت وطأة النزاعات. الكثير من الخبراء الغربيين في مجال القوى الناعمة، بما في ذلك مبتكر المصطلح جوزيف ناي، الأستاذ بجامعة هارفارد، قللوا من شأن الدبلوماسية الصينية على مستوى العالم؛ حيث وصفها بأنها غير فعالة. ولكننا إذا ما نظرنا بشكل أعمق إلى الجهود التي تبذلها القوة الناشئة في الشرق الأوسط، سوف نكتشف أن الحديث عن إخفاقها في جذب العقول والقلوب العربية، أمر مبكر للغاية. وأن هناك الكثير من الدروس التي يمكن لأي من القوى الإقليمية والدولية الاستفادة منها في التجربة الصينية. * معهد كونفوشيوس أذيع البرنامج الوثائقي حول كونفوشيوس، ويمتد نحو 45 دقيقة في سبتمبر (أيلول) 2013، ضمن المجلة الإخبارية الأسبوعية التي تبث باللغة العربية، تحت عنوان «بانوراما» على الإذاعة الصينية. وبعد بثه بأربعة أشهر، ما زال البرنامج يتمتع بالمتابعة على مواقع التواصل الاجتماعي. يبدأ البرنامج بمذيعة تتحدث بلهجة عربية سليمة، وإن كانت ذات إيقاع صيني، حول الفيلسوف كونفوشيوس، قائلة إنه ولد قبل 2564 عاما، مشيرة إلى التأثير الكبير الذي تركه على الصين وشعبها منذ ذلك الحين. ثم تنتقل المذيعة على نحو مفاجئ إلى حديث آخر قائلة: «لقد شهدت الأعوام الماضية، تأسيس الكثير من معاهد كونفوشيوس التي تنشر أفكار الكونفوشيوسية القديمة وفلسفتها في جميع أنحاء العالم، وأصبحت منارات لنشر الثقافة الصينية». ويعالج باقي البرنامج مؤسسات كونفوشيوس وليس الفيلسوف نفسه، وهي عبارة عن شبكة من المؤسسات التعليمية التي تدعمها الحكومة في بكين، وتروج للتعليم والتدريب في الصين، بالإضافة إلى برامج التبادل التعليمي والثقافي. ورغم وجود فروع للمؤسسة في الكثير من الدول العربية، إلا أن البرنامج يولي اهتماما خاصا بمصر وتونس. ويقول محمد علي الزيات، الذي يترأس قسم اللغة الصينية بجامعة قناة السويس بمصر، وفي هذا السياق يقول إن بعض الطلاب المصريين يلتحقون بالقسم حبا في اللغة الصينية، فيما يلجأ القطاع الأكبر لدراسة اللغة بحثا عن فرص أفضل للعمل في الكثير من المصانع والشركات الصينية في مصر، التي تحتاج إلى عاملين يتحدثون الصينية، مضيفا أن كلا من مصر والصين تمثلان حضارتين عظيمتين، مؤكدا أن تعاليم كونفوشيوس تتواءم تماما مع مصر، حتى إنه يتذكر أن أبيه كان يعتقد أن مصر الحديثة كانت لتصبح قوة عظمى على غرار الصين ما لم تتعرض لضغوط القوى الأجنبية. وعلى غرار أبيه، يؤمن الزيات، بأن على مصر أن تنأى بنفسها عن الغرب، وأن تتجه إلى الصين التي يعدها أفضل شريك لها، لأن العلاقات تعتمد على تبادل المصالح بدلا من أن تصب المصالح فقط لصالح أحد الأطراف. وتتضمن خططه للمستقبل، برنامجا رياديا حول الصين يقدم للمدارس المصرية، يتمنى أن يصبح خطوة صوب تقديم الدراسة الصينية كلغة ثانية في المدارس. وفي تونس، تشير مسؤولة بمعهد كونفوشيوس في مدينة صفاقس إلى أهمية الحوار، وتعبر عن آراء تماثل الآراء الشخصية والسياسية حول الصين لزميلها، كما تتذكر السنوات السعيدة التي قضتها في بكين أثناء الدراسة. كذلك ضيفة البرنامج الأخيرة، وهي طالبة مصرية عادت أخيرا من هناك. وتلمح تلك الأصوات إلى أن هناك الكثير الذي ينتظر المستمع العربي الراغب في أن يكون جسرا بين بلده وبين الصين. ورغم أن البرنامج يخرج تماما عن الإطار الإخباري، وله قيمه ترفيهية محدودة، فإنه يضرب تماما على الوتر فيما يتعلق بالغرض المحدود الذي من المفترض أن يحققه، وهو تشجيع الشباب المصري والتونسي على الالتحاق بمعاهد كونفوشيوس، حيث يستمعون إلى رسالة مفادها، أنهم يستطيعون دراسة اللغة الصينية مجانا وتعزيز فرص حصولهم على العمل إلى حد كبير. ويستطيع ضيوف البرنامج، أن يتخذوا ردود أفعال استباقية تجاه العقلية القومية التي يمكن أن تستفزها، مثل تلك المحاولات من قوى أجنبية؛ حيث يطمئنون المستمعين بأن مصر أيضا، دولة ذات حضارة عظيمة، وأنها لم تتخلف عن اللحاق بركب الصين إلا بسبب لتعرضها لتاريخ طويل من استغلال الغرب لها؛ مشيرين إلى أن اتخاذ خطوة صوب الصين يعد خطوة نحو الحرية والتقدم. ويجري تقديم بكين كوجهة مضيافة للدراسة في الخارج، بالإضافة إلى كونها مكانا يقدر ضيوفه ويرفض الصور النمطية المعادية للعرب المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة. وبالطبع يبدأ بعض المستمعين ذوي الإمكانات المتواضعة، في التساؤل عما إذا كان التبادل التعليمي تموله الدولة المضيفة أم لا، وللحصول على إجابة يجب على السائل أن يزور المعهد بنفسه. أما بالنسبة للفيلسوف كونفوشيوس، فإن اسمه ذكر مرات عدة على خلفية موسيقية هادئة، من دون التطرق إلى سيرته الذاتية أو أعماله؛ حتى يبدو وكأن البرنامج يستخدمه كاستعارة أو كوصفة سحرية للصين، وإكسير يحتاجه العرب لاستعادة مجدهم القديم. * من يستمع لتلك الإذاعات؟ بخلاف إذاعة «سوا» الأميركية، وإذاعة «بي بي سي» اللندنية، لا تتوافر الإذاعة الصينية على الموجات المحلية في المنطقة. ومن جهة أخرى، يمكن مشاهدة إعلانات الإذاعة في الأماكن التي من المرجح أن يتجه إليها العرب المهتمون بالصين، مثل موقع السفارة الصينية في القاهرة الذي يحتوي على رابط على موقعه الرئيس، كما يشجع الملحق الثقافي بالسفارة، الشباب الذين يلتقي بهم على الاستماع إليها. كما أن بعض معاهد كونفوشيوس، تروج لتلك الروابط لدى الطلاب المحتملين كنوع من الإعلانات الصوتية. وتتضمن الطرق الأخرى لنشر الإذاعة، الاستعانة بمواطنين عرب يعملون كرسل لبكين في إطار ما يطلق عليه «مجتمعات تقدير المستمعين»؛ وهي نوادٍ اجتماعية للشباب يبدو أنها تكونت عفويا في البداية، لكنها استمرت في النمو بفضل دعم الصين لها. فعلى سبيل المثال، هناك «النادي الدولي لأصدقاء الإذاعة الصينية» في مدينة خريبكة؛ وهي مدينة صغيرة وسط المغرب، تعد مركزا مهما لاستخراج الفوسفات، حيث يجري تصدير جانب كبير منه إلى الصين. ووفقا لموقعه الإلكتروني، أنشأ النادي، شاب مغربي عاشق لرياضات المصارعة الآسيوية اكتشف الإذاعة وبدأ المشاركة في مسابقاتها التي تبث على الهواء مباشرة. ومنحته الإذاعة فرصة زيارة محافظة سيشوان؛ حيث انضم إلى مجموعة من المستمعين للإذاعة من تركيا والسنغال وكمبوديا والمجر وغيرها، من الشباب الذين أسسوا، أيضا، نوادي في بلدانهم. وخرج كل شخص برفقة شخص من الشبكة الإذاعية، عمل معه كمترجم ومرشد بدوام كامل. وكتب المشارك المغربي تقريرا حول الزيارة أفاد فيه: «لقد كنا نتناول العشاء والوجبات الخفيفة في أفضل المطاعم بالصين كما لو كنا ملوكا. ولا أستطيع أن أصف مدى إحراجي من المذيعة المحترمة التي رافقتني طوال الرحلة، والتي لم تبدِ أبدا تعبا أو مللا من ترجمة كل كلمة». فقد كانت تعاملني بحنو أم، مشيرا إلى طاقم العمل في الإذاعة، بأنه «كأفراد الأسرة الأعزاء». يعمل النادي الدولي لأصدقاء الإذاعة الصينية بإذن من وزارة الداخلية المغربية، لتزويد الإذاعة بتقارير عن المستمعين، والتعاون مع السفارة الصينية في محاولتها التقارب مع المغرب، ولعقد صفقات تعاون بين المؤسسات المغربية ونظيراتها الصينية. وبالنسبة لأعضاء النادي، فإن اتفاق القاهرة الذي أفضى إلى بث المسلسل الصيني على التلفزيون المصري هو نموذج يجب التطلع إليه. وقد حقق نادي خريبكة خطوة في هذا الاتجاه، في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، بافتتاح مهرجان الفيلم الصيني الذي امتد لأسبوع كامل. وتعد تلك المشروعات، تجليات «القوة الناعمة» للصين، وهي القدرة على جذب الآخر بدلا من استعدائه؛ حيث قوبلت بعض المساعي المماثلة من قبل الولايات المتحدة، على مدار سنوات، بعداء حاد، تمظهر في اعتداءات وقعت على المكتبات الأميركية والمنشآت التعليمية الإنجليزية في الكثير من الدول العربية. كما تعرض بعض العاملين في المبادرات الأميركية للشكوك، أو حتى للاتهام بالتجسس بخلاف نظرائهم الصينيين. ولإدراك التناقض، يمكن تخيل الانتقادات التي يمكن أن تتعرض لها مجموعة من الشباب العربي في بغداد أو غزة، إذا ما أطلقت على نفسها «نادي أصدقاء الإذاعة الأميركية» التي تعمل على تقديم تقارير مستمعين لهيئة أميركية للمحكمين في واشنطن، والتعامل مع السفارة الأميركية لتأسيس «اتفاقيات تعاون» مع السكان. وتنبع المعاملة القاسية التي سوف يتعرض لها هؤلاء الشباب، إلى حد كبير، من الوضع الأميركي في الشرق الأوسط، في أعقاب سنوات من السياسات التي لم تلق قبولا لدى الجماهير العربية. وعلى النقيض، لم تحتل الصين، من قبل، أي دولة عربية، كما أنها لا تواجه اتهامات تتعلق بالانحياز لصالح إسرائيل ضد الفلسطينيين. * السياسة الصينية ومن جهة أخرى، تبنت الصين مؤخرا عددا من السياسات التي أثارت استياء معظم أنحاء المنطقة اليوم ودفعت ثمن ذلك في مستوى شعبيتها؛ فقد ضخت البلاد المليارات في ليبيا عبر عقود البترول في عهد القذافي، ورفضت مساندة الحملة للإطاحة به. وبالتالي نأت عنها الحكومة الانتقالية فيما بعد القذافي ومعظم الشعب الليبي. وقد أصبحت الأغلبية السنية المأزومة في سوريا تشعر بالكراهية تجاه الصين؛ نظرا لأنها تقف إلى جانب نظام بشار الأسد وسط الحرب الأهلية الدموية المستمرة هناك. وهناك الكثير من المظالم الاقتصادية تجاه الصين أيضا؛ فعلى سبيل المثال يلقي قطاع من نخبة القطاع الخاص في مصر باللوم على شركائهم الصينيين في إعادة جانب كبير من الأرباح من المشروعات التي تقام على أراضيهم إلى الصين حتى إن القدر المتبقي للاقتصاد المحلي لا يمثل مكاسب عادلة وذلك وفقا لما يقوله جون الترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن. وفي سبتمبر تعرضت الصين لأول هجمة إرهابية ضد واحدة من سفاراتها في الشرق الأوسط عندما جرى إلقاء قذيفة هاون على سفارتها في دمشق انتقاما من دعم بكين للأسد. ورغم أن تقرير بيو للآراء الدولية يلحظ وجود تراجع لشعبية الصين، فإنه يؤكد أنها ما زالت أكثر شعبية من الولايات المتحدة في المنطقة؛ مشيرا إلى أن الشباب العربي يحبون الصين أكثر مما كان يفعل آباؤهم. فقد بدأت جهود القوة الآسيوية طويلة المدى للدبلوماسية الشعبية للتو تؤتي ثمارها كما يتضح من الصفقة الصينية مع التلفزيون المصري. ولكن هل تحرز جهود الصين تقدما في الشرق الأوسط فيما تتراجع مستويات نظيراتها الأميركية؟ كلما تعمقنا في فحص جهود التواصل الأميركية، اتضح لنا أنها تعاني من نفس الاتهامات التي كانت تتعرض لها. ومن جهة أخرى، فإن للمقاربة التي تتبعها الولايات المتحدة خصائصها الفريدة وربما هو ما يساعد الصين على تجنب نفس المصير. وعلى غرار جهود الدبلوماسية الشعبية الأميركية في العالم العربي، يواجه معهد كونفوشيوس (أي المؤسسات التعليمية الصينية التي كان يروج لها في البث العربي للإذاعة الصينية) معارضة في بعض البلدان التي له وجود بها. ولا يأتي الانتقاد أكثر شيء من البلدان النامية وإنما من الدول الثرية، فقد كان أكثر الاتهامات حدة التي وجهت للمعهد هو أنه يعمل كآلة تجسس للجيش الصيني. وتقر الاستخبارات الكندية بأنها فحصت فروع المنظمة على أرضها. ورغم الكثير من الانتقادات الأميركية وجود أشخاص مشتركين بين بعض فروع المعهد في الولايات المتحدة وقيادة شركة هيواي؛ وهي شركة اتصالات صينية تدور حولها شكوك بشأن تجسسها على منافسيها الأميركيين. * الحرية الأكاديمية ثم هناك اعتراض آخر يتعلق بأن المعهد يعرقل الحرية الأكاديمية في الجامعات التي يؤسس فرعا بها؛ حيث يلجأ الكثير من الجامعات المتعثرة ماديا، مما يحد من حركة النشاطات الجامعية ضد ما يزعم أنه انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وهو ما أسفر عن إلغاء زيارة للدالاي لاما، على سبيل المثال، خوفا من أن يغلق المعهد أبوابه احتجاجا. وقد دعت المعارضة المنظمة بجامعة شيكاغو وجامعة ملبورن بالإضافة إلى عدد من الجامعات في أوروبا وآسيا إلى إلغاء تلك المعاهد برمتها، استنادا إلى عدد من الحجج منها أن المعهد يعد بوقا فعالا للحزب الشيوعي الصيني، رغم أنه يقدم نفسه في أوروبا والأميركتين باعتباره المعادل الصيني لمعهد غوته الألماني والمعهد البريطاني اللذين يتمتعان بالاستقلالية السياسية من الحكومتين الداعمتين لهما. وعلى النقيض من ذلك، وكما يقول لي شنغ شون، أحد كبار الأعضاء باللجنة الدائمة للمكتب السياسي في حوار مع مجلة «إيكونوميست» فإن المنظمة أسستها بكين كجزء مهم من الدعاية الصينية بالخارج. وقد وصف الكثير من الدارسين بمعهد كونفوشيوس بالغرب معلميهم بالمعهد بأنهم يستخدمون موقعهم لتعزيز موقف الحكومة الصينية في نزاعها مع تايوان وجماعة فالون غونغ المعارضة وأحداث ميدان تيانانمن ونشطاء الاستقلال في التبت. وربما تندرج مثل تلك الاتهامات على معهد كونفوشيوس في البلدان الفقيرة مثل مصر التي تعاني فيها الجامعات من صعوبات مالية، ومن ثم فإنها بالضرورة ستصبح أكثر امتنانا للمتبرعين الأجانب. ولكنك إذا ما تفحصت وسائل الإعلام المصرية بحثا عن أي انتقاد للمؤسسة، حتى وإن كان تفنيدا للمزاعم الغربية، سوف تخرج خاوي اليدين. بل إنك بدلا من ذلك يمكنك مشاهدة جولة إرشادية مدتها 30 دقيقة داخل فرع المعهد بجامعة القناة جرى بثه على قناة «الجزيرة مباشر» في مايو (أيار) الماضي، وحوار مدته 20 دقيقة مع مصرية محبة للثقافة الصينية تترأس فرع المعهد في دبي جرى بثه على قناة «المصرية»، بالإضافة إلى الكثير من التقارير الصحافية التي جرى تناقلها حرفيا في الصحف المصرية حول تزايد أعداد المصريين الذين يجيدون الصينية، فيما أرجعت هذه التقارير الفضل للمعهد. ويبدو أن هذه التغطية الإيجابية للغاية تعود إلى مزيج من العوامل بعضها تفتقر إليه القوى الغربية المنافسة للصين؛ فمثلا ينظر الشرق الأوسط إلى الدول الغربية على أنها «أطفال» من منطلق التاريخ وعلى مبعدة عدة قرون من الحصول على التوقير الذي تكتسبه الحضارات القديمة والعريقة مثل الصين. كما أن الدول الغربية لم تحظ بما حظيت به الصين في التراث العربي: (اطلبوا العلم ولو في الصين). ولا يعود شعور أحد المغاربة المحبين للإذاعة الصينية بالامتنان لشعب محافظة سيشوان إلى برنامج الحكومة المخصص لتشكيل مثل تلك الصلة، بل إنه نتاج طبيعي للتفاعل بين أعضاء المجتمعات التقليدية التي لديها نفس القيم والبنى العائلية والصلات المدنية ونفس الدعابة القديمة. ومن ثم، فإن تلك العوامل المشتركة هي ما تجعل البطل في مسلسل «حياة سعيدة» مميزا بالنسبة لملايين المصريين الذين يعيشون في الحضر؛ حيث إنهم هم شخصيا انتقلوا إلى الحضر عبر الهجرة من الريف ويتذكرون صدمة الانتقال المفاجئ من الريف إلى الحضر. ومن ثم فمن المرجح أن تتمتع الصين لسنوات طويلة مقبلة بأفضلية في البلدان العربية مقارنة بالقوى العظمى الأخرى. كما أن مقاربتها الإعلامية والتي يقلل من شأنها خبراء القوى الناعمة الأميركيون عتيقة الطراز أيضا ويمكن تلخيصها بمصطلح اشتهر في العالم العربي وهو مصطلح الكر والفر. ففي إطار مساعي واشنطن للحصول على تصنيف عالٍ لدى «غالوب» تعاملت مع المنطقة دفعة واحدة - وذلك بالاستعانة بجهود على مدار اليوم من الدبلوماسية الشعبية تغطي نحو 3200 ميل عبر الموجات العربية - وهي الاستراتيجية التي كانت أثارت اعتراضات واسعة مما دفعها في النهاية إلى تعديل استراتيجيتها. فيما كانت الصين تتسلل بهدوء وتتواصل مع عدد محدود من الجماهير، وتراكم انتصارات صغيرة وتحصل على مناصرين جدد. فعندما تقوم بتجربة تكون المخاطر محدودة، وعندما تشن حملة طموحة تكون لديها خطة مدروسة جرى اختبارها مسبقا، وهي مقاربة يمكن لأي منافس أن يستعين بها خاصة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي تمتاز بالتنوع الشديد ومن ثم لا يمكن تلخيص رسالة القوى الأجنبية في رسالة واحدة لكافة المناطق. وبالنسبة لقدرة الصين الباهرة على تجنب الانتقادات الصحافية - على الأقل حتى الآن - فإنها تنبع من حقيقة أنه بعد ثلاث سنوات من بداية الثورات العربية، لا تزال معظم وسائل الإعلام الكبرى في المنطقة، تخضع مباشرة لهيمنة الدولة أو تذعن لها. وبدورها، تعمل الصين باستمرار، على طمأنة الحكومات العربية بأنها ليست لديها أي خطط تجاه أنظمتها السياسية. كما أنها تسعى للشراكة مع الإذاعات المحلية وليس التنافس معها. وبهذه الطريقة، تمكنت من تجنب صدور أوامر بتشويه مؤسساتها أو تطلعاتها. وبالطبع، ستثير فكرة تقديم تطمينات مماثلة لدولة عربية، حتى وإن كانت حليفة، انزعاج الكثير من الأميركيين أخذا في الاعتبار التقليد الأميركي المعتمد على تصدير الديمقراطية وطرق التفكير حول وسائل الإعلام عبر «لعبة التصنيف». ولكن الملابسات الحالية في المنطقة تقتضي طرقا جديدة لتطبيق القيم الأميركية على سياستها. فعندما تحقق الحركات المتطرفة العابرة للقوميات خطوات صوب إضعاف الدول والقضاء على حدودها، يجب منعهم من النجاح والتركيز على دعم مؤسسات الحكومة التي تعدها واشنطن حليفة. بالإضافة إلى أنه عبر المشاركة في مجال وسائل الإعلام، تستطيع أي قوة سواء كانت الولايات المتحدة أو غيرها أن تفوز بمقعد على الطاولة وفرصة للتفاوض حول كيفية تقديمها في وسائل الإعلام ومن ثم الحصول على فرصة للتفاوض حول معاملة خصومها. * كاتب أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

قراءة في السياسة الأميركية بسوريا ولبنان قراءة في السياسة الأميركية بسوريا ولبنان

$
0
0
قدم أحد المغردين على موقع «تويتر» رابط المقالة المشتركة التي نشرها الرئيسان الأميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند في صحيفة «واشنطن بوست»، بمناسبة زيارة الأخير إلى العاصمة الأميركية، وجاء فيها: «لقد مهد تهديدنا باستخدام القوة الطريق لخطة نزع أسلحة سوريا الكيماوية». وأضاف الرئيسان: «الآن، على سوريا الوفاء بالتزاماتها»، ما دفع المغرد المذكور إلى التعليق: «على سوريا الوفاء بالتزاماتها وإلا فماذا؟ نذهب إلى جنيف 15؟». التغريدة تختصر السياسة الأميركية تجاه سوريا منذ اندلاع الثورة المطالبة بإنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد في مارس (آذار) 2011. وهي سياسة متمحورة حول الكلام والتصريحات. بعضها حازم، وبعضها الآخر غامض، وكلها قلما تقترن بأفعال أو رؤية عامة متناسقة أو متماسكة. وفي وقت لم يكن معروفا، في الأشهر الأولى للثورة، من يضع هذه السياسة، بدا جليا في وقت لاحق أن أوباما نفسه هو المسؤول الأول والأخير عنها، أو هذا هو الوصف الذي قدمه وزير دفاعه السابق روبرت غيتس، الذي قال في كتاب مذكراته الصادر حديثا إن البيت الأبيض، و«مجلس الأمن القومي» خصوصا، نجحا في حصر السياستين الخارجية والدفاعية الأميركية في يدي الرئيس بشكل لا سابق له، وإنه منذ أن انخرط غيتس في عالم السياسة في أوائل السبعينات وعمل في الإدارات المتعاقبة، لم يسبق أن رأى مركزية في القرار كالتي عايشها تحت حكم الرئيس الحالي. يضرب غيتس أمثلة متعددة على احتكار أوباما الكامل لقرارات السياسة الخارجية الأميركية بالقول إنه في موضوع تسليح المعارضة السورية، كان هو ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إيه) السابق ليون بانيتا يؤيدون التسليح، لكن أوباما لم يكن يستمع إلى وزيري دفاعه وخارجيته ومدير استخباراته، بل كان يصر على عدم التسليح. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حلقة حوارية في ولاية تكساس شارك فيها غيتس وبانيتا، قال الرجلان إنهما لو كانا في مركزيهما لكانا قدما نصيحة للرئيس بتوجيه ضربة لقوات الأسد، من دون الذهاب إلى الكونغرس طلبا لموافقة استخدام القوة العسكرية، عقابا للأسد على شنه هجوما بالأسلحة الكيماوية في ضاحية دمشق في 21 أغسطس (آب) الماضي. سبتمبر 2013 شهد أيضا استدارة أوباما الشهيرة على نفسه، فهو بعدما ركن أربع سفن حربية مقاتلة قرب الشواطئ اللبنانية والسورية، خرج إلى العلن فجأة، وكان يوم سبت وهو اليوم الذي تفرض فيه عطلة نهاية الأسبوع شبه حظر على النشاط السياسي في العاصمة الأميركية، ليبلغ الأميركيين أنه ارتأى أن يحيل قرار توجيه الضربة في سوريا إلى الكونغرس الذي يسيطر الحزب الجمهوري المعارض على غالبية مجلس الممثلين فيه، فيما يحتفظ حزب أوباما الديمقراطي بغالبية مجلس الشيوخ. وفيما اعتقد المتابعون في بادئ الأمر أن أوباما اتخذ قراراه بعد استشارة زعماء الكونغرس من الحزبين وحصوله على موافقتهم، اتضح فيما بعد أن الرئيس الأميركي لم يكن قد طلب مشورة أحد، ولا حتى كبار أركان إدارته، إذ أشارت التسريبات اللاحقة إلى أن أوباما اتخذ قراره منفردا وبالتشاور فقط مع رئيس موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدنو، ثم جمع في وقت لاحق القياديين في «فريق الأمن القومي» ليعلمهم بقراره، لا ليستشيرهم، وكذلك فعل مع وزيري خارجيته ودفاعه جون كيري وتشاك هيغل اللذين بلغا الخبر من الرئيس عبر الهاتف. عدم اكتراث أوباما بالشأن السوري، ولا بنصائح كبار أركان إدارته حول ضرورة تسليح الثوار وتوجيه ضربة لقوات الأسد، أكدته فيما بعد صحيفة «نيويورك تايمز» في مقالة نشرتها في أكتوبر (تشرين الأول) وشارك في كتابتها مايكل غوردن، وهو معروف بقربه من البيت الأبيض، وجاء فيها أنه «حتى في الوقت الذي اكتسب فيه النقاش حول تسليح الثوار أهمية استثنائية، كان يندر أن يعبر السيد أوباما عن آراء قوية أثناء اجتماعاته مع كبار موظفيه». ونقلت الصحيفة عن كبار المسؤولين الحاليين والسابقين قولهم إنه لطالما كانت «لغة جسد أوباما في هذه الاجتماعات معبرة؛ فهو كان يبدو غالبا غير صبور وغير منخرط أثناء استماعه للنقاش، وكان أحيانا يتناول جهازه البلاكبيري أو يمضغ العلكة». * سوريا تهدد أمن أميركا في ظل احتكار أوباما قرارات السياسة الخارجية، وفي ظل غياب حماسة أوباما تجاه سوريا كان من الطبيعي أن تتراوح سياسة واشنطن تجاه الأزمة السورية بين المرتبكة والمتضاربة، فعلى عكس ما حدث في مصر حيث لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يتخلى أوباما عن حليف أميركا الرئيس الأسبق حسني مبارك ويقول له إن مغادرته اليوم تعني الأمس، تأخر أوباما كثيرا في اتخاذ موقف تجاه عدو أميركا بشار الأسد، إذ مضت خمسة أشهر على اندلاع الثورة السورية قبل أن يطلق الرئيس الأميركي، في 17 أغسطس 2011، تصريحا قال فيه إن «مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري، لكن الرئيس بشار الأسد يقف في الطريق»؛ لذا «من أجل مصلحة الشعب السوري، حان الوقت للرئيس الأسد أن يتنحى جانبا». قبل ذلك، وفيما كانت قوات الأسد تطلق النار على المتظاهرين السوريين السلميين وتقتل منهم وتعتقل وتعذب، التزمت واشنطن الصمت باستثناء إصدار وزارة الخزانة ثلاثة قرارات عقوبات مالية طالت مقربين من الأسد. على أن مطالبة أوباما الأسد بالرحيل لم تتعد كونها موقفا خطابيا لم يقترن بأي سياسات معينة داخل العاصمة الأميركية، فلم يجرِ رصد أي أموال لدعم الثوار أو تدريبهم، ولا جرى تخصيص شحنات أسلحة لتسليحهم، ورفض أوباما التهديد باستخدام القوة الأميركية من أجل إجبار الأسد على الرحيل. على العكس، تمادت الإدارة الأميركية في حبس دعمها المادي عن الثوار، وأرسلت عاملين في استخباراتها إلى الدول الحليفة المجاورة لسوريا، وراح هؤلاء العملاء يتفحصون كل عمليات التسليح التي قامت بها دول مؤيدة للثوار، وراحوا يمنعون تزويد الثوار بأي أسلحة نوعية. وداخل واشنطن، راح أوباما يعقد الاجتماعات المتوالية لفريق الأمن القومي، برئاسته، من أجل التباحث في تطورات الشأن السوري. ولأن أوباما حافظ على صمته وعدم اكتراثه، تحول النقاش بين أفراد فريقه إلى نقاش حامي الوطيس، خصوصا بين كيري، المؤيد لضربة أميركية «تجعل الأسد يقرأ الكتابة على الحائط» ويدرك أن لا سبيل له للبقاء أو لحكم سوريا مجددا، وهيغل الذي يعارض الضربة العسكرية ويعتقد أن أفضل الحلول هو التوصل إلى تسوية مع إيران تتضمن سوريا. وفي إحدى الجلسات، تفاقم النقاش بين كيري وهيغل إلى حد دفع أوباما إلى الطلب منهما ترتيب لقاء بينهما في اليوم التالي لتبريد الأجواء. * تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني على أن الرأي الأبرز الذي خرج من هذه الاجتماعات إلى العلن كان رأي رئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي، الذي كرر سرا وعلنا اعتقاده أن لا مصلحة أميركية في استخدام القوة العسكرية في سوريا. وكرر ديمبسي، أثناء لقاءات فريق الأمن القومي، أن في سوريا حربا بين طرفين هم بمثابة إرهابيين وأعداء لأميركا: تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني، وأنه كلما طالت المعركة بين هذين الطرفين، استنزفا قوتيهما، وكانت المواجهة في مصلحة واشنطن التي ليس لها مصلحة، في هذه الحالة، في التدخل لمصلحة أي منهما. وتبنى نظرية أن مصلحة أميركا في استمرار الحرب بين «القاعدة» وحزب الله عدد من أصحاب القرار والخبراء الأميركيين، وخصوصا من أصدقاء إسرائيل. إلا أن المسؤولين والخبراء الأكثر حنكة كانوا يدركون أن استمرار المواجهة في سوريا لم يكن في مصلحة أميركا، وقال هؤلاء إن الحرب السورية تقدم مسرحا ملائما للإرهابيين للاستقطاب، والتنظيم، والتدريب، والتسليح، وإقامة شبكات تمويل. وأضاف هؤلاء أنه عندما تنتهي الحرب السورية، سيعود الإرهابيون إلى منازلهم، ولكنهم سيحتفظون بتدريبهم وبعلاقاتهم مع الشبكات الإرهابية، وقد يستخدمون الخبرة التي اكتسبوها في سوريا لشن عمليات إرهابية في دول غربية، منها الولايات المتحدة. في هذا السياق، قال وزير الأمن القومي الأميركي جيه جونسون إن مسؤولي الاستخبارات الأميركيين «يعرفون أشخاصا من أميركا الشمالية وأوروبا في طريقهم إلى سوريا حيث سيجدون أنفسهم تحت تأثير نفوذ راديكاليين متطرفين، وربما يعودون إلى بلدانهم فيما بعد (في الغرب) مع نية القيام بأذى». وقال جونسون، في خطاب في مركز وودرو ويلسون في واشنطن في شهر فبراير (شباط) الماضي، إن «سوريا أصبحت شأنا مرتبطا بالأمن القومي» للولايات المتحدة، وهو تصريح يشبه تصاريح مماثلة أدلى بها مسؤولون أميركيون كبار حول خوفهم من أن تتحول سوريا إلى ملتقى للإرهابيين الذين يتلقون التدريب ثم يعودون إلى بلدانهم، مثل أميركا، فيهددون أمنها. * أوباما: سوريا حرب الآخرين الأهلية.. ولبنان تابع التضارب في آراء المسؤولين الأميركيين ليس حديثا، فمنذ اندلاع الثورة السورية والمسؤولون هنا يقدمون مواقف ورؤى متضاربة، فتصريحات جونسون وأمثاله حول الخطر الذي تشكله الحرب السورية على الأمن القومي الأميركي هو رأي يتناقض تماما مع تصريحات أوباما المتكررة، التي غالبا ما تكون مرتبكة ومتناقضة. وبلغ الارتباك في رؤية ومفهوم أوباما تجاه سوريا ذروته ليل العاشر من سبتمبر أثناء توجيهه خطابا إلى الشعب الأميركي حول الأزمة السورية. وقتذاك، قال أوباما للأميركيين: «الليلة، أريد أن أتحدث إليكم عن سوريا، ولماذا تهمنا». وبعدما سرد الرئيس الأميركي تاريخ الثورة السورية، وقال: إن قمع الأسد للمظاهرات السلمية حولها إلى حرب أهلية، واتهم حكومة الأسد بشن هجوم كيماوي أدى إلى مقتل أكثر من ألف سوري، ما خرق «مفهومنا للإنسانية»، قال أيضا إن «ما حدث لهؤلاء الناس (لهؤلاء الأطفال) ليس فقط اختراقا للقانون الدولي، بل هو أيضا خطر على أمننا». ثم عاد ليصف الوضع في سوريا بأنه «حرب الآخرين الأهلية» التي لا يمكن حلها باستخدام القوة الأميركية. في خطاب أوباما ذاك حول سوريا تناقض واضح، إذ هو من ناحية عدها «حرب الآخرين الأهلية» التي لا مصلحة لواشنطن في التدخل فيها، ومن ناحية أخرى عدها «تهديدا للأمن القومي» الأميركي الذي يفرض اهتماما أميركيا. وفي وسط التناقض في مواقفه، يقف أوباما متفرجا حتى اليوم. على أن الرئيس الأميركي جدد اعتقاده أن الحرب في سوريا هي «حرب الآخرين» في مقالته المشتركة مع هولاند، التي جاء فيها: «وفيما تهدد الحرب في سوريا استقرار المنطقة، بما فيها لبنان، على المجتمع الدولي أن يزيد من مجهوده للعناية بالشعب السوري، وتقوية المعارضة السورية المعتدلة، والعمل من خلال عملية جنيف 2 باتجاه انتقال سياسي يمكنه أن يخلص الشعب السوري من الديكتاتورية والإرهاب». إذن، عاد أوباما إلى مقولة إن الحرب في سوريا تهدد أمن المنطقة، ولبنان، فيما هو لم يعدها تهدد الأمن القومي الأميركي. هكذا، يصبح الحل في سوريا ولبنان، مرتبطا بتوصل السوريين إلى حل سياسي خلال «عملية جنيف». واستخدام كلمة «عملية» لوصف مؤتمر جنيف هو عادة درج عليها المسؤولون الأميركيون منذ مطلع هذا العام، لإدراكهم أن المؤتمر لا يمكنه التوصل إلى حلول قريبة، ولتبريرهم استمرار عملية القتل المستمرة في سوريا فيما المجتمع الدولي يقف متفرجا بقولهم إن «الانتقال السياسي» في سوريا هو عملية تستغرق وقتا، وإنها لن تجري بسرعة، ما يبرر الموقف الدولي المتفرج. على أن ما يثير القلق في موقف أوباما، الذي يبدو أنه ألبسه لهولاند كذلك، هو اعتقاد الرئيس الأميركي أن لبنان هو مجرد تابع لسوريا، وأن أي اهتزاز لاستقراره هو بسبب الحرب السورية. كما يشي قول أوباما إن الحل الوحيد للتخلص من الديكتاتورية والإرهاب في سوريا هو عملية انتقالية سياسية بين السوريين باعتقاده أن الإرهاب اليوم هو في سوريا فقط، مع العلم أن وزارة الخارجية الأميركية تضع حزب الله اللبناني على قائمتها للتنظيمات الإرهابية، وكذلك يفعل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أنه إذا كانت سوريا لا تثير قلق أوباما، الذي يعتقد أن لا دور لبلاده للحل فيها، فإنه لن يثير لبنان قلق الرئيس الأميركي، رغم وجود حزب الله، السابق لاندلاع الثورة السورية، والذي يواجه أعضاؤه عددا من المحاكمات الدولية والمحلية في دول أوروبية وآسيوية بتهمة التفجير، كما في بلغاريا في عام 2012. أو التخطيط للقيام بعمليات إرهابية، كما في قبرص العام الماضي. * الولايات المتحدة وحزب الله: عدو عدوي صديقي في يونيو (حزيران) 2013. كتب آندرو أكسوم، مسؤول ملف لبنان السابق في مكتب وزير الدفاع الأميركي، تغريدة جاء فيها: «أعجب كيف يحث حزب الله اللبنانيين على دعم الجيش». وأضاف متوجها بسؤال إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بالقول: «إذن نحن الآن نتفق على أن على الدولة احتكار العنف يا أبو هادي؟». وقتذاك جاء التلاقي في المواقف بين أميركا وحزب الله على دعم الجيش اللبناني، وفي حالة الحزب المذكور ربما القتال إلى جانب الجيش أو حتى توريطه في معركة مع رجل الدين أحمد الأسير في مدينة صيدا الجنوبية. والأسير كانت تحيطه مجموعة من عشرات المؤيدين، بعضهم مع أسلحة خفيفة، ولكن الشيخ المذكور ومجموعته لم يرقيا في الغالب إلى مستوى المجموعات المسلحة التي يمكنها أن تهدد أمن اللبنانيين أو حكومتهم. والأهم أن وزارة الخارجية الأميركية لا تضع الأسير ولا مجموعته على لائحة التنظيمات المصنفة إرهابية، ما يعني أن أي مواجهة تخوضها القوى الأمنية اللبنانية مع الأسير هي من باب حفظ الأمن، وأنها لا تدخل في إطار «الحرب على الإرهاب»، ولا تتطلب حتى مشاركة الجيش اللبناني في القتال. إلا أن الحكومة الأميركية لم تكترث لتفاصيل الأسير، بل جددت دعمها للجيش اللبناني، ووجدت نفسها في ذلك في موقع مطابق لموقع حزب الله، فيما خلت البيانات والتصريحات الأميركية من أي إشارة تطالب الجيش اللبناني بفرض سلطة الدولة على الأرض اللبنانية كاملة، بما في ذلك المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، الذي تعده واشنطن تنظيما إرهابيا. التطابق بين الولايات المتحدة وحزب الله اللبناني لم يأت في إطار توافقهما على «الحرب على الإرهاب» في لبنان فحسب، بل في سوريا كذلك، إلى درجة أنه لم يدلِ أي مسؤول أميركي بتصريح يعد فيه أن وجود الحزب في سوريا، للقتال إلى جانب الأسد، هو إرهاب، بل تدلى التصريحات الأميركية على اعتقاد واشنطن أن الإرهاب في سوريا مصدره المجموعات المناهضة للأسد وحزب الله فقط. ويأتي كذلك اعتبار أوباما، في مقالته مع الرئيس الفرنسي، أن لبنان هو ضحية الحرب السورية، من دون أن يعد أن لبنان هو (قبل حرب سوريا) ضحية حزب الله الذي تصنفه واشنطن إرهابيا، ليؤكد التفكير الأميركي أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في حزب الله عدوا، بل ترى فيه في الغالب حليفا أو صديقا، حتى وإن بشكل غير رسمي، وعلى قاعدة «عدو عدوي صديقي». التقارب الأميركي مع حزب الله في لبنان وسوريا يأتي في وسط الانفراجات بين واشنطن وطهران في ملف إيران النووي، والتوصل إلى «اتفاقية إطار» مؤقتة في جنيف في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. كذلك نشرت وسائل إعلام أميركية وأوروبية وعربية مختلفة مقالات أكدت فيها وجود قنوات حوار غير مباشر بين واشنطن والحزب اللبناني، وهو أمر لاقى نفيا تامّا من الطرفين. لكن «لا دخان من دون نار»، حسب القول المأثور، فمع حلول العام الحالي، أطل سعد الحريري رئيس أكبر كتلة في «مجلس النواب» اللبناني ورئيس الحكومة الأسبق المناوئ لحزب الله والأسد ليعلن قبوله الدخول في حكومة «وحدة وطنية» مع الحزب وحلفائه، بعدما رفض الحريري هذا الأمر على مدى عشرة أشهر، مطالبا بانسحاب مقاتلي الحزب من سوريا كشرط لقبوله تأليف حكومة من هذا النوع. ولكن رغم موافقة الحريري على تشكيل حكومة وحدة برئاسة النائب في كتلته تمام سلام، برزت عقبات وضعها حليف حزب الله النائب ميشال عون. يعتقد الكاتب والتر راسل ميد أن الدول الآسيوية تقول اليوم عن الرئيس أوباما ما كانت تقوله بالضبط عن الرئيس السابق جورج بوش، بأنه «رغم التزام أميركا اللفظي بآسيا، ابتلع الشرق الأوسط السياسة الخارجية الأميركية». وتأتي شكوى حلفاء أميركا في آسيا، رغم تكرار المسؤولين الأميركيين لمقولة «الاستدارة» من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى: «في وقت يدل على اتساع دور الصين وتزايد قوة الردود اليابانية على اعتقاد الدولتين أن واشنطن ليست مهتمة بشؤون منطقتهم، وهو ما يعني أن الأوضاع تصبح أكثر خطورة» في غياب قوة ناظمة للعلاقات المتدهورة بين دول هذه المنطقة. «هذه ليست مشكلة آسيا أو الشرق الأوسط أو أي حي من العالم تشعر الإدارة بأنها ترغب في الاستدارة نحوه»، يكتب ميد، ويضيف: «إنها مشكلة انفصال بين ما تقوله الإدارة وبين ما تفعله، وهو ما يدفع الناس إلى السؤال: هل تعني إدارة أوباما ما تقوله؟». ويتابع الكاتب الأميركي أن «كارثة الخطوط الحمر في سوريا»، أي أنه عندما هدد أوباما الأسد بأن استخدام الأسلحة الكيماوية سيكون بمثابة تخطي الخطوط الحمراء ويجبر أميركا على التدخل عسكريا: «مزق مصداقية الإدارة حول العالم»، وهو ما يجعل الجميع عصبيين، في حال كنا نستدير نحوهم أو لا، فكل ما تقوله الإدارة الآن يبدو، وللأسف، وكأنه خط أحمر جديد في سوريا. ويختم ميد أنه لا يمكن حل مشاكل إدارة أوباما للسياسة الخارجية بالاستدارة من منطقة إلى منطقة، فآسيا تحتاج إلى المزيد من الانتباه الأميركي، وكذلك الشرق الأوسط، وكذلك (كما بدا واضحا في أوكرانيا) أوروبا، إذ إن «ما تحتاجه إدارة أوباما فعلا هو استدارة نحو العالم، واستدارة نحو سياسة خارجية جدية ومتناسقة تقول فيها ما تعنيه وتعني ما تقوله». * صحافي وكاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة

خطط الإخوان المسلمين لاختراق الأحزاب المصرية خطط الإخوان المسلمين لاختراق الأحزاب المصرية

$
0
0
كشفت مصادر لـ«الشرق الأوسط» عن وجود محاولات حثيثة من قبل جماعة الإخوان لاختراق بعض الأحزاب المصرية وشرائها بالمال والإنفاق عليها ببذخ مقابل ضمان تحقيق خطة الوجود في الحياة السياسية والمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. بل وأكد محللون لـ«الشرق الأوسط» أن الإخوان أو المتأخونيون – على حد وصفهم - سيحتلون في البرلمان المصري المقبل ما يقرب من 20 في المائة من مقاعده. وذهب بعضهم إلى أن برلمان 2014 سيكون نسخة من برلمان 2005 الذي احتل فيه الإخوان 88 مقعدا؛ حيث سيزج بأسماء غير معروفة والإنفاق عليها ببذخ كواجهة للتستر وراءها. وحذر مراقبون من خطورة تأثير المال السياسي على المشهد الانتخابي المصري، مشيرين إلى أن أحزابا تنتمي لليسار الجديد والليبرالي القديم هي الأكثر عرضة لهذه الاختراقات. منذ فض اعتصامات رابعة والنهضة وسقوط نظام الإخوان بعزل الرئيس السابق مرسي في يوليو (تموز) من العام الماضي لم تهدأ محاولات الإخوان في فرض وجودهم على المشهد السياسي المصري ومقاومة حصارهم سياسيا وأمنيا، خاصة بعد اعتبارهم جماعة محظورة، ليدخل الإخوان مرحلة جديدة من العمل الخفي لاختراق بعض الأحزاب والتأثير على قراراتها من خلال أشخاص غير معروفين أو من خلال توجيه مباشر بالمال وهو ما تعرضت له بعض الأحزاب الكبيرة والصغيرة على حد سواء. ففي حزب المؤتمر الذي أسسه عمرو موسى مرشح الرئاسة السابق، جرى اكتشاف محاولات اختراق إخوانية بهدف الوجود والتأثير على الحزب، وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» اعترف حسام الدين علي المتحدث الإعلامي باسم حزب المؤتمر بتعرض الحزب لمحاولات اختراق. وقال: «لقد اكتشفنا عملية الاختراق من نحو 200 عضو في محافظة الشرقية بدلتا مصر ورفضنا ضمهم بعد أن عرفنا ذلك من اجتماعات تسربت لنا. كما أن لدينا معلومات بأن الإخوان سيقدمون بعض المرشحين من الشخصيات غير المعروفة والأغنياء جدا ليكونوا على رؤوس قوائم بعض الأحزاب المدنية وذلك في مقابل التبرع بالأموال لدعم حملات بعض الأعضاء والشباب في هذه الأحزاب يعني بجانب كل مرشح في الانتخابات من هؤلاء يجري الإنفاق على خمسة مرشحين آخرين وهي أسماء لأحزاب معروفة لكنني لا أستطيع ذكرها في هذا المجال إنما أستطيع وصفهم بأنهم من اليسار الجديد والليبرالي القديم». وأضاف حسام الدين علي مؤكدا أنه لو نفذ الموضوع بهذا الشكل تكون هناك خيانة كبيرة. وقال: «أنا أحذر هذه الأحزاب من الاستمرار في المتاجرة بالمقعد لمصالح حزبية على حساب الوطن. وإن كنت لا أتوقع سوى تأثير محدود ونسبة محدودة جدا لوصول الموالين للإخوان للبرلمان». وردا على اختراق الإخوان لأحزاب اليسار، قال الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «بالفعل كانت هناك محاولات إخوانية لاختراق الأحزاب المصرية عبر تاريخهم وقد كشفت وثائق الكونغرس الأميركي وتقارير ما يسمى اللجنة الفرعية الخامسة (sub committee 5) وتقارير (سي آي إيه) أن حسن البنا أرسل أشخاصا ليقوموا بأعمال استطلاع واستكشاف للأحزاب المعادية لأميركا والموالية للاتحاد السوفياتي للتعرف على ما يحدث. وقديما لعب الإخوان دورا كبيرا على حزب مصر الفتاة فحولوه للحزب الوطني الإسلامي ثم عاد حزب مصر الفتاة مرة أخرى قبل أن يصبح اسمه الحزب الاشتراكي». وكشف السعيد عن محاولات الإخوان لاختراق حزب الوفد عدة مرات، منها فترة حكم مصطفى النحاس خلال القرن الماضي لدرجة أن مصطفى النحاس أنشأ جريدة «صوت الأمة» خصيصا لمحاربة حسن البنا الذي كان يرد عليه بمعلومات عن أشخاص من داخل حزب الوفد نفسه! بينما كانت «صوت الأمة» الوفدية تكشف استقالات الأعضاء من الجماعة ويقولون إنها تهوي وأطلقوا على حسن البنا وقتها اسم «حسن راسبوتين». وحديثا في عام 1984 نجح الإخوان في اختراق حزب الوفد مرة ثانية. والأغرب من ذلك أن الإخوان نجحوا في اختراق هيئة التحرير المعبرة عن ثورة يوليو 1952 والاتحاد القومي الاشتراكي في عهد جمال عبد الناصر. وأضاف السعيد أن «الإخوان تحالفوا مع حزب العمل في عهد القيادي إبراهيم شكري وسيطروا عليه تقريبا، وهو ما أدى إلى خروج عدد كبير من الحزب منهم ناجي الشهابي وممدوح قناوي عندما شعروا بإصبع الإخوان يلعب بقوة على حزب العمل والنتيجة الآن أن حزب العمل مع رئيسه مجدي حسين أصبح من قيادات ما يسمى تحالف دعم الشرعية الموالي للإخوان». وأكد رفعت السعيد أن محاولات الإخوان في الاختراق تجاوزت الأحزاب ووصلت إلى الحركات الشبابية. وقال: «إن الإخوان اخترقوا حركة 6 أبريل وبعض الشباب المتطرفين ممن يطلقون على أنفسهم الاشتراكيين الثوريين وهم ليسوا ثوريين ولا اشتراكيين. ولا زالت محاولات الاختراق مستمرة للأحزاب المصرية. كما سيظهر نواب إخوان أو متأخونون في البرلمان من خلال خلايا نائمة ومرتزقة للأموال التي ستدفع لهم دون خوف أو رادع في ظل عدم وجود عقوبة دستورية خاصة بهذا الأمر. وأتوقع أن يظهر الإخوان في الانتخابات من خلال الخلايا النائمة والمتأخونين ويساعد على ذلك التمويل الأجنبي من عدة أماكن منها طهران وقطر وأميركا وتركيا والاتحاد الأوروبي». وعن تجربته الخاصة مع اختراقات الإخوان كأحد شهود العيان على واقعة اختراق شهيرة لحزب العمل أكد ممدوح قناوي رئيس الحزب الدستوري الحر لـ«الشرق الأوسط» أن «الإخوان كانت لهم محاولات متكررة وإن كان حزبي الحالي لم يتعرض لها إلا أن لي تجربة سلبية معهم عندما كنت في حزب العمل حيث اتخذت موقفا صارما من محاولات اختراقهم للحزب وسيطرتهم عليه وهو موقف كلفني ثمنا باهظا وكنت أول من دق جرس الإنذار ضد محاولات الإخوان للاستيلاء على حزب العمل وقلت وقتها في مؤتمر عالمي إنهم يحاولون السيطرة على البلاد والعباد ففصلت من الحزب بعد أن كنت نائب رئيس الحزب ومفكره وفقدت مقعدي بمجلس الشعب بسبب رفضي خوض الانتخابات على قوائم التحالف الإسلامي مع حزب العمل ومع ذلك فأنا أعتز بموقفي رغم خسارتي. وضاع حزب العمل بين سنابك الإخوان. ورغم ذلك فعندما وجدت الإخوان ينغمسون في السياسة وقفت بجانبهم على أمل فتح صفحة جديدة وذلك في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة لكنهم للأسف لم يعملوا بإخلاص». وعن الوضع الحالي بعد سقوط مرسي قال قناوي لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد للإخوان أي حراك وليتهم يحاولون الاتجاه للعمل السياسي خاصة أن الأموال تنهال عليهم بلا حصر ولكنهم للأسف لم يفعلوا واتجهوا لتسخير هذه الأموال للقتل والتخريب.. لذلك فالإخوان ميتون، وكذلك الأحزاب المصرية ميتة. أقول ذلك وأنا رئيس حزب وهناك حالة فراغ سياسي هائلة لدرجة أنني أفكر في اعتزال السياسة لشعوري بعدم جدوى الاستمرار. وهو الفراغ الذي جعل الجيش يتصدى للأمر يوم 30 يونيو (حزيران). ومن يعمل الآن طبقة ضعيفة جدا من أصحاب المال الذين قد يحاولون فرض واقع في البرلمان وغالبا سيكونون من أتباع الحزب الوطني المنحل الذي يسعى بكل جهده للعودة تحت ستار أسماء متعددة». الكاتب الصحافي وحيد رأفت رصد تاريخ الإخوان في عمليات اختراق الأحزاب منذ بدايتها، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن حسن البنا غرس في أتباعه أنهم في مهمة دينية وإن أخذت شكلا سياسيا، وترشح قبل ثورة 23 يوليو للبرلمان مرتين ولم ينجح لوجود الوفد كحزب شعبي وأحزاب الأقلية المدعومة من الملك والإنجليز، فحاول اختراق الحزب الشيوعي، وجمعية مصر الفتاة عن طريق الخلايا النائمة.. وكان حسن البنا وجماعته يدعمون علي ماهر والملك فاروق لضرب شعبية حزب الوفد. وكثيرا ما هاجم مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد حسن البنا، والمدهش أن حسن البنا كتب رسالة إلى الملك فاروق والنحاس باشا بعد معاهدة 1936 يقول فيها إن أولى خطوات الإصلاح القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة وجهة واحدة، بل إنه هاجم زعماء أحزاب الوفد والأحرار والشعب والاتحاد، كما هاجمت مجلة «النذير» الأسبوعية الإخوانية التي صدرت عام 1938 بشراسة الحزبية وطالبت بإلغاء الأحزاب. وبعد ثورة يوليو تحالفوا مع الضباط الأحرار في البداية وحاولوا اختراق الثورة لولا عنف عبد الناصر في مواجهتهم وإيداعهم السجون بعد محاولة اغتياله في المنشية عندما فشلوا في السيطرة على الحكم.. وفي عهد السادات كان الإخوان في تناقض بين العلني والسري في سلوك الجماعة فهم تنظيم محظور قانونا مسموح به عرفا طبقا لما قاله السادات لعمر التلمساني.. وخلال حكم مبارك تحالفوا مع الوفد أيام رئاسة فؤاد سراج الدين للحزب، وكان تحالفهم في انتخابات الثمانينات عندما كان القانون المصري يمنع ترشيح المستقلين آنذاك، وكانت الانتخابات تجري عبر «القائمة الحزبية»، وحينما عدل القانون في عام 1987، كانت الفرصة ذهبية بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين وسرعان ما استغل الأعضاء قانون «الائتلاف بين الأحزاب» وانضموا لحزب الوفد رغم اختلافهم الآيديولوجي، واحتلوا مقاعد في مجلس الشعب، وعندما اختلفوا مع الوفد بسبب صراع الإخواني صلاح أبو إسماعيل مع الوفدي ممتاز نصار على رئاسة زعامة المعارضة وهجوم أبو إسماعيل على الوفد في أثناء زيارته لإخوان السودان انفصل الإخوان عن الوفد واتجهوا للسيطرة على حزب العمل الذي كان يرأسه إبراهيم شكري. وقال وحيد رأفت: «أذكر أن عادل حسين الصحافي اليساري المتأسلم ومعه الصحافي الإخواني محمد عبد القدوس ومجموعة من صحافيي تيار الإخوان، عقدوا جلسة للتصويت بين محرري جريدة (الشعب) - الناطقة باسم حزب العمل - على تحويل الجريدة إلى جريدة إخوانية أو جريدة اشتراكية، وقد حضر الجلسة حامد زيدان رئيس تحرير الجريدة ومؤسسها والمعروف بانتمائه الاشتراكي ومعه إبراهيم شكري رئيس الحزب، وفوجئ الصحافيون الاشتراكيون أن التصويت جاء لصالح صحافيي الإخوان وأصبح الصحافيون الاشتراكيون أقلية في الجريدة، فقدم حامد زيدان استقالته من رئاسة التحرير ومعه زملاؤه الاشتراكيون وحاول إبراهيم شكري إثناءهم عنها، لكن عادل حسين تولى رئاسة التحرير بالتصويت أيضا، ولم يستطع حامد زيدان كتابة حرف بعد ذلك في الجريدة التي أسسها، لأنها تحولت إلى صوت للإخوان، فكانت صوتا للتنظيم الإخواني في السودان وناصرت صدام حسين بعد غزوه للكويت عندما ناصره الإخوان، وكتب فيها الهضيبي مرشد الإخوان رسالته الأسبوعية». وأضاف رأفت أن الإخوان اخترقوا أيضا حزب الأحرار بالسيطرة على جريدة «آفاق عربية» لصالح الجماعة، حيث أخذت الصحيفة في متابعة أخبار الإخوان والحديث عن قضاياهم ومشكلاتهم، حتى جرت مصادرتها ومنعها، ثم حدثت مشكلات كثيرة لحزب الأحرار، وتصارع أعضاؤه على رئاسته، ووجدت الجماعة ضالتها في «مجلة الزهور» لصاحبها الإخواني صلاح عبد المقصود الذي أصبح فيما بعد وزيرا للإعلام في عام حكم مرسي! وكانوا يصطدمون مع الحزب الوطني في العلن وينسقون مع قياداته في السر فلم يرشحوا أحدا منهم في الدوائر المرشح فيها كمال الشاذلي أو أحمد عز أو فتحي سرور! بل كانوا في مكتب وزير الري في حكومة نظيف من خلال هشام قنديل الذي ظل يعمل لسنوات مديرا لمكتب الوزير محمود أبو زيد، وفوجئ الجميع أنه خلية نائمة. وما حدث قبل أحداث 25 يناير (كانون الثاني) واختراقهم الأحزاب ورفضهم تشكيل حزب علني يعبر عنهم، كان وراءه الصراع بين الظاهر والباطن الإخواني ورفضهم حل الجماعة والاكتفاء بالحزب السياسي، خوفا من حل الحزب فيما بعد، فيكون حلهم الجماعة بأيديهم وحل الحزب بأيدي غيرهم خطيئة لا تغتفر!! وبعد الثورة وخلال حكم الإخوان كان حزب الوسط من أكثر الأحزاب المصرية تأثرا بالاختراق الإخواني فذاب في جماعة الإخوان وذاب معهم أبو العلا ماضي وعصام سلطان. وقد أكد وحيد رأفت أن «الجماعة سوف تستخدم قياداتها الشبابية غير المعروفة إعلاميا، لخوض الانتخابات على أن يجري دعمهم سرا كما فعلوا مع جماعة 6 أبريل عندما دخلها مصطفى النجار وكان من شباب الإخوان لاختراقها!!». والمتوقع منهم خلال الفترة المقبلة بعد حل حزب الحرية والعدالة قضائيا، تكرار محاولات التسلل إلى الأحزاب من أجل السيطرة على الانتخابات البرلمانية والمحليات، مثل حزب غد (أيمن نور) الذي يستميت في الدفاع عنهم وهرب خارج مصر بعد سقوطهم وثورة الشعب عليهم، وأيضا من الأحزاب المرشحة لاختراق الإخوان حزب مصر القوية الذي يسميه الشارع السياسي حزب «الإخوان بشرطة» لصاحبه أبو الفتوح وحزب الوسط، وحزب الدستور، وكان البرادعي مؤسسه متعاطفا مع معتصمي رابعة واستقال من منصبه بعد فض الاعتصام، وسبق أن صرح بأن «من حق الإخوان إنشاء حزب سياسي» وهو ما دعا ألفا من شباب الإخوان للانضمام فعليا لحزب الدستور، فتقدم العشرات من أعضاء الحزب للاحتجاج على إصرار رئيس الحزب على ضم الإخوان. وردا على دعاوى اختراق الإخوان لحزب الدستور، أكد خالد داود المتحدث الإعلامي للحزب لـ«الشرق الأوسط» أن هذا الأمر بعيد تماما عن الحقيقة وأن حزب الدستور له خط واضح وفكر مختلف تماما عن نهج الإخوان من البداية، وأن الممارسة العملية على أرض الواقع «كفيلة بدرء أي محاولة لاختراقنا من جانب الإخوان، وكان ذلك واضحا منذ قيام الدكتور محمد البرادعي بتأسيس الحزب وهو نفسه الذي ساهم في تشكيل الجماعة الوطنية لجبهة الإنقاذ والتي تبنت مواقف صارمة أثناء حكم مرسي وكانت على خلاف شديد مع الإخوان». وقال داود إن الحزب شارك في الدعوة لإسقاط الرئيس محمد مرسي وهو ما يجعل استحالة وجود أي علاقة أو حتى تنسيق في المواقف الحالية من بعض القضايا وأي موقف يتبناه حزب الدستور سواء بالدعوة إلى تأييد مرشح مدني أو بالدفاع عن حقوق الإنسان إنما يأتي في إطار دفاعنا عن سيادة القانون واحترام الحريات السياسية وهو لا يعني تنسيقا ناتجا عن اختراق الإخوان». من جانب آخر، كشف أحمد بان المتخصص في الجماعات الإسلامية وأحد القيادات الإخوانية المنشقة لـ«الشرق الأوسط» أن خيرت الشاطر هو مهندس الاختراقات في العصر الحديث؛ حيث كان يرى أن جماعة الإخوان لا بد وأن تكون لها أذرع في كل الساحات وبين كل اللاعبين السياسيين في مصر. وقال إنه كان حريصا من هذا المنطلق على اختراق الأحزاب السياسية والقوى السياسية والحركات الاجتماعية لكي يمتلك أدوات تمكن الإخوان من السيطرة على المشهد السياسي في مصر وهو يقوم بذلك متأثرا بتكوينه السياسي الذي بدأه بعضوية التنظيم الطليعي اليساري حيث كان معلمه عبد الغفار شكر فاكتسب خلال ذلك مهارات العمل السياسي السري الذي يتسم به اليسار المصري بجانب مهارة العمل السري لجماعة الإخوان ومن ثم مارس الأسلوبين معا ضد القوى السياسية المختلفة ونجح في اختراق جماعة 6 أبريل وخلق جناحا إسلاميا داخلها ليستغله كإحدى أدوات التثوير في الشارع المصري بتحريك عناصر داخلها. وقديما كانت محاولة السيطرة على حزب العمل في الثمانينات من القرن الماضي من أخطر محاولات الاختراق وهي المحاولة التي قام بها الإخوان بعد عودتهم للحياة السياسية والتي دفعت مجموعة من حزب العمل للانشقاق عنه فظهرت جبهات منشقة مثل جبهة أحمد مجاهد وإبراهيم شكري. وشرح بان كيفية حدوث الاختراق بطرق عديدة أشهرها السيطرة بالمال. وقال: «إن هناك أحزابا مصرية جرى شراؤها بالمال للتأثير على قراراتها. وكانت هناك محاولة منهم للسيطرة على الحزب الديمقراطي الذي يترأسه الدكتور محمد أبو الغار لكنها كانت محاولة فاشلة. وكذلك كانت هناك محاولة لاختراق حزب مصر القوية الذي أسسه عبد المنعم أبو الفتوح، فجماعة الإخوان أرادت أن تخترق حزبه الجديد فدفعت ببعض العناصر الإخوانية للتماهي داخل المجموعة التي التفت حول أبو الفتوح وكونت الحزب. وقد شكا لي عدد من قيادات الحزب من تحدي العناصر الإخوانية وعملهم على الحيلولة دون اتخاذ الحزب مواقف قوية ضد الإخوان وأظن أن المعركة الداخلية لحزب مصر القوية قبل أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة كانت محاولة تخليص الحزب من الإخوان ولكن بعد أحداث رابعة وقع عدد كبير من هذه العناصر في الحرج الأخلاقي لإعلان هويتها لتتبدل البروفايلات على (فيسبوك) بعد ذلك وتتحول إلى شعار رابعة، إلا أن البعض كان حريصا على ألا يبرز هذه الهوية فخرجت مجموعة أخرى من الحزب على آثار هذا الموقف وبقيت العناصر المكلفة من قبل خيرت الشاطر بالبقاء حسب الحاجة وتماهت مع الخطاب الإخواني وبدا الحزب في درجة من درجات التندر على مواقفه السياسية حتى إنهم صاروا يتندرون عليه ويصفون الطقس عندما يكون خليطا بين الحر والبرد بأنه (أبوالفتوح) نتيجة الخلطة السرية لحزبه وحالة العبء على قرار وإرادة حزب مصر القوية». وأضاف بان أن حزب الوسط أيضا من الأحزاب التي اخترقها الإخوان بالكامل. وقال: «كنت رصدت خلال لقاء مصغر مع أبو العلا ماضي وعصام سلطان في نقاش حول قضية اقتصادية في حضور محمد محسوب الذي كان وزيرا ينتقد أداء الحكومة وكان ينوي الاستقالة وينتقد الإخوان أيضا ولكن يبدو أن سيف التمويل هو الذي أثر فكان المفتاح السحري الذي استخدمه الشاطر للسيطرة على حزب الوسط لذلك نجد رموزه يمثلون الآن شكلا من أشكال الدعاية للتحريض ضد الدولة». وعن تأثير ذلك على الاستحقاقات السياسية المقبلة قال بان: «إنني أتصور أن امتناع أبو الفتوح عن ترشيح نفسه له علاقة بترتيبات مع جماعة الإخوان. وأتوقع أن يستطيع الإخوان اختراق مجلس الشعب ويستولوا على 20 في المائة من المقاعد وربما يلعب المال السياسي دوره الأكبر في هذه الانتخابات فنجد أنفسنا أمام برلمان أشبه ببرلمان 2005 الذي حظي فيه الإخوان بـ88 مقعدا من المقاعد». من ناحيته، قال الدكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية والنائب البرلماني السابق لـ«الشرق الأوسط»: «أنا أفرق بين اختراق جماعة الإخوان للأحزاب السياسية بشكل مباشر عن طريق ممثلين لها أو أنصار يتكلمون باسمها وبين الاختراق غير المباشر عن طريق التحالف لفرض أجندة. وللأسف الشديد هناك عدد من الأحزاب المصرية التي تساند أجندة الإخوان ممن يرون ضرورة استمرار وجود الإخوان على الساحة السياسية ولا يعتبرونها جماعة إرهابية ويقولون إن العنف الذي يمارسه بعض أعضائها هو عنف شخصي». وأكد زهران أن هناك حالة غزل بين تلك الكيانات السياسية والأحزاب وجماعة الإخوان على خلفية أجندة أميركية ويعتبر هذا الأسلوب من الاختراق الإخواني هو الأكثر شيوعا من الاختراق المباشر. وأضاف أن «هناك على الساحة السياسية المصرية أحزابا لها علاقة بالخارج فتتلقى التمويل الخارجي والمساعدات أو من خلال الأشخاص الكبار في تلك الأحزاب المرتبطين بمصادر تمويل أجنبي عن طريق جماعات المجتمع المدني.. ولو وضعنا معيارا لهذا الاختراق لوجدنا أن هناك تشابها في الأجندة من حيث رفض تدخل الجيش في السياسة فيما يسمونه (يسقط حكم العسكر) والدعوة لتزكية مرشح مدني، رغم أن أي عسكري من حقه الترشح طالما خلع بدلته العسكرية. وحين نتكلم على هذا النحو نجد أن هناك عددا من الأحزاب قد اخترقت بهذه الأجندة منها حزب الدستور مع العلم أن كل الأحزاب المصرية ليس لها نقاء فكري وغير قادرة على حسم الخيارات وأغلبها يتاجر في الثورة وفي مقدمتها حزب الدستور وهو ما يعكس التواصل عن طريق الجماعة أو الممولين من خارج مصر بما فيها الدول والأجهزة المخابراتية». وأشار زهران إلى حزب مصر الديمقراطي الذي يرأسه الدكتور محمد أبو الغار.. قائلا إنه: «على الرغم من كونه رجلا محترما فإن حزبه يتعرض لمحاولات اختراق. والمال السياسي يسيطر على الأمور ويلعب دورا خطيرا منذ 11 فبراير (شباط) وحتى الآن بما في ذلك أموال السلفيين والإخوان». كما أشار إلى حزب مصر الحرية الذي يرأسه الدكتور عمرو حمزاوي وإلى أنه ينتهج نفس الأجندة، مضيفا أنه «حزب ليس له هيكل..» وأضاف: «نجد أن هناك ترابطا بين مواقف هذه الأحزاب والتصريحات الأميركية. كما أن حزب الوفد كانت له جمعيات ممولة من الخارج، وقد فتح النائب عبد العليم داود هذا الملف وفصل من الحزب لهذا الأمر وكذلك كل الأحزاب السلفية والإخوان ممولة من دول خارجية وإقليمية.. ويؤسفني القول إنه يتردد أيضا أن أجندة حمدين صباحي أيضا تحمل غزلا للإخوان خاصة مع عدم اعتبارهم إرهابيين وأنا أطالب بمزيد من الشفافية في تمويل حملته وتمويل كل الأحزاب المصرية لأننا دخلنا في دوامة تلقي بظلالها على العملية السياسية في مصر».

الأمير سلطان: السعودية صوت سلام واستقرار بحكم دورها المركزي في الشؤون الدولية الأمير سلطان: السعودية صوت سلام واستقرار بحكم دورها المركزي في الشؤون الدولية

$
0
0
احتضنت جامعة أكسفورد في الثاني من أبريل (نيسان) الحالي، مؤتمر «الجزيرة العربية الخضراء»، الذي جمع الكثير من علماء الآثار والبيئة من المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية وعدد من دول العالم الأخرى، بهدف استكشاف العلاقة بين التاريخ البشري والتغير المناخي في الجزيرة العربية. وشارك الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار في المؤتمر، حيث ألقى كلمة مهمة في الجلسة الافتتاحية، استهلها بتوجيه الشكر والتقدير إلى الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا أمير ويلز، الذي شارك بكلمة خاصة في افتتاح المؤتمر، أبدى خلالها اهتماما خاصا به ودعما كبيرا له. كما قدر الأمير سلطان عاليا، جامعة أكسفورد لتعاونها القيم مع الهيئة العامة للسياحة والآثار في المملكة العربية السعودية، ووجه الشكر أيضا، إلى البروفسور مايكل بتراقليا، منسق المؤتمر ورئيس فريق جامعة أكسفورد المشارك ضمن الفريق السعودي الدولي لمشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، ومساعديه، وفريق الهيئة العامة للسياحة والآثار بقيادة نائب رئيس الهيئة للآثار والمتاحف، د. علي الغبان، لجهودهم الدؤوبة في تنظيم المؤتمر والدعوة، متمما للقاءات الدورية التي تعقد في السعودية للإعلان عن نتائج المواسم المختلفة لفرق المشروع الفرعية. وتحدث الأمير سلطان في كلمته المهمة أمام المؤتمرين، عن العمق الحضاري للجزيرة العربية منذ فترة ما قبل التاريخ، وتأثير التغيرات المناخية في أرض الجزيرة العربية التي كانت يوما مليئة بالبحيرات والبساتين والأنهار، ولم تكن مفرغة من الحضارات. وكان المؤتمر قد حدد محورين للنقاش خلال اليومين اللذين استغرقهما، هما: الآثار والتراث الثقافي في معرفة التغيرات المناخية الماضية وتأثيرها، والقضايا ذات الاهتمام المشترك بين المملكتين. وفيما يلي ابرز ما جاء في كلمة الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز: يشكل مشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، الذي تعمل عليه الهيئة العامة للسياحة والآثار من خلال فرق علمية سعودية تساندها فرق من علماء الآثار من مراكز بحثية مرموقة عالميا، عنصرا مهما في مشروع أكبر هو مشروع «الملك عبد الله للعناية بالتراث الحضاري» الذي صدرت موافقة مجلس الوزراء السعودي الموقر عليه منذ أسابيع قليلة، والهادف لإعادة الاعتبار للآثار والتراث الوطني، ودراستهما وفهمهما وربط المواطنين بهما، بوصفهما صفحات مشرقة لتاريخنا المشرق والذي توجه شروق شمس الإسلام فيه وفي أرضه متنزل الكتاب ومنها مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أرضها الحرمان الشريفان، وهو ما يمثل أهم قيمة يتمسك بها مواطنو هذه البلاد، ويفخر بها سكان الجزيرة العربية منذ القدم، وكذلك العناية بمواقع الآثار وشواهد الحضارات السابقة للإسلام التي عقبها الإسلام وأظهر عليها، ولم يهمشها أو يهدمها، بل احترمها وأبقاها ليستمر الفهم وتتصل العبرة، وما تلا ذلك من شواهد التاريخ الإسلامي في العصور المتتابعة وصولا إلى التاريخ الحديث الذي تحفظ لنا آثاره ومواقع التراث العمراني المنتشرة في كل شبر من المملكة حكاية إسهام أبناء المملكة من دون استثناء تحت قيادة الملك عبد العزيز في بناء أعظم وحدة حصلت في العصر الحديث، وتقريب هذا التسلسل التاريخي العظيم إلى أذهان المواطنين وقلوبهم، وبالأخص فئة الشباب، للرفع من اعتزازهم بتاريخه وتهيئتهم لإكمال مسيرة التقدم الحضاري التي دائما يملكها إنسان الجزيرة العربية، وكان عليها آباؤهم في المملكة العربية السعودية المحبون لبلادهم في كل حالاتها، ولتبقى الآثار مكونا أساسا ضمن هويتنا الوطنية. وما كان لاجتماع «الجزيرة العربية الخضراء» أن يتحقق، ولا وصولنا إلى هذه المرحلة من الفهم للحضارات التي مرت على الجزيرة العربية، والتوسع في بعثات التنقيب، ولا للعناية الكبيرة لمواقع التاريخ الإسلامي وكل ما يرتبط بالتراث الوطني.. ما كان لذلك جميعه أن يتحقق من دون توفيق الله ثم الدعم الكبير الذي نجده من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يعد الملهم الأول لجهود العناية بالتراث الوطني، والموجه الدائم باستمرار دراسة التراث بشكل أكبر والعناية بمواقعه، لإدراكه - أيده الله - أن هذه البلاد ليست طارئة على التاريخ، وأن ثقلها على المستويات الإسلامية والاقتصادية والسياسية، وتميز مواطنيها في شتى المجالات، ليس حادثا جديدا على هذه المنطقة، بل لا بد لشواهد الآثار أن تثبت تفوق إنسان الجزيرة العربية عبر العصور، وذلك ما تثبته الدراسات المستقلة وتؤكده النتائج العلمية المدققة كل يوم. هناك محاولة فهم الترابط بين المكونات الأساس التي تعرف بها المملكة العربية السعودية عالميا، إذ إنها مهد الإسلام والقوة الاقتصادية التي جعلتها ضمن أعظم عشرين اقتصادا عالميا، وهي الثقل السياسي في المنطقة، غير أن فهم هذه الأبعاد ومنطلقها، وأسباب استمرارها، يرتبط بمعرفة الجذور التاريخية والتراثية لهذا المجتمع من خلال استقراء الشواهد الأثرية الباقية، ليتضح لنا أن هذه السمات لم تبرز من فراغ، ولم تطرأ مؤخرا، بل لكل منها جذوره التي تجعل منه أمرا متوقعا، وتساعد على إدراك الترابط العميق في ما بينها. وباختصار، لكي نفهم جميع سمات شبه الجزيرة العربية، يجب علينا الابتداء من تاريخها العريق. * المكون الإسلامي لنبدأ أولا بالمكون الأهم للمملكة، ونقطة الاعتزاز الأكبر، وهو البعد الإسلامي؛ إذ يمثل الإسلام المحور الأساس الذي قامت عليه بلادنا، والذي حصل حوله التوافق لقيام الدولة الحديثة، والأساس الذي تستمر الدولة قائمة به، وهو الدين الذي نزل في هذه البقعة من الجزيرة العربية، لينتشر منها إلى العالم، متخطيا مناطق استوطنتها حضارات أخرى، ليصبح اليوم واحدا من أسرع الأديان نموا، وقدرة على التعايش عبر العصور وبمرور الأزمنة والمتغيرات الحياتية؛ لما يتسم به من مرونة وشمولية وضعها الخالق سبحانه في الدين الخاتم للأديان والباقي إلى قيام الساعة. وعلى الرغم من أن القيم الإسلامية لصيقة بنا، ونعيشها في حياتنا باعتزاز، فإن علينا التنبه إلى أن الإسلام لم يأت من فراغ، بل قامت أسسه ومبادئه على قيم عالية تتشارك في جوهرها مع الحضارات الأخر التي في أصلها تنبني على التوحيد ومعالي الأخلاق مع تتميمها، وهو ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فاكتملت منظومة القيم وتهذبت بالإسلام الخالد، وازدهرت في ثنايا مجتمع متنوع ثقافيا، مما يوحي بشكل صريح بوجود سابق لقيم أخلاقية. وبالتالي، جاء ظهور الإسلام على أناس تمتعوا بنظام من القيم والأخلاق، كما اعترف الإسلام بحضارات شبه الجزيرة العربية العظيمة واحترم الديانات التي سبقته بنفس السياق الذي عمّق فيه القيم العربية النبيلة الموجودة. ونحن المسلمين نؤمن أنه لكي يكون المرء صحيح الإسلام، يتوجب عليه الإيمان بجميع الرسل والأنبياء عبر العصور - مثل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، إذ يقول الله تعالى في كتابه العزيز: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ولقد بزغ الإسلام في وقت فائق الأهمية، وفي مكان حافل بالأهمية هو مكة المكرمة التي كانت تمثل قوة اقتصادية فريدة ومركزا روحيا وثقافيا في شبه الجزيرة العربية، حيث تكونت أهميتها لوجود الكعبة المشرفة التي قام النبي إبراهيم - عليه السلام - ببنائها قبيل ما يقرب من 24 قرنا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتصبح مقصد الحجاج وملتقى لقوافل التجارة جراء ذلك، ولقد خلّد القرآن الكريم قصة إبراهيم - عليه السلام - كما جاءت في سورة «إبراهيم»: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ولقد أسهمت مواسم الحج منذ ذلك الوقت في ترسيخ مكانة مكة كمركز ثقافي واقتصادي في قلب خطوط التجارة وجموع الحجيج الذين يفدون لمكة المكرمة ويخرجون منها. * المكون الاقتصادي مثلت شبه الجزيرة العربية منذ الأزمان الغابرة موقعا جغرافيا استراتيجيا من الناحية الاقتصادية لكونها دائما في صلب محاور الحضارات والنشاط الاقتصادي، وأن وفرة الكنوز والأدوات الأثرية التي نعثر عليها في عملياتنا الاستكشافية حاليا، كما شاهدتم، ضمن معرض «طرق شبه الجزيرة العربية» الذي يجوب حاليا بلاد العالم، ما هو إلا نتيجة لموقع شبه الجزيرة العربية الاستراتيجي في قلب الحضارات والنظم الاقتصادية، حيث جرى نقل السلع والبضائع والمواد الأولية على طرق التجارة آنذاك كما هي حالة النفط حاليا. إن الاكتشافات المذهلة التي حصلت في قطاعات الفنون والنحت والمجوهرات والمنشآت تظهر وجود مستوى راق من الصناعات الحرفية التي تؤكد وفرة الثروات على نطاق واسع. لذا، ففي وسع المرء أن يقول إن شبه الجزيرة العربية كانت غنية لحقب طويلة قبيل اكتشاف النفط، وهذا يؤكد بشكل واضح أننا شعب شبه الجزيرة العربية لسنا «حديثي نعمة». إن ازدهار هذه الأنظمة الاقتصادية التي قامت على التجارة وطرق القوافل لم يكن ممكن التحقيق من دون سكانها، وأحفاد تلك الشعوب هم مواطنو المملكة العربية السعودية اليوم الذين يعيشون مرحلة التحديث ويوظفون الثروة لتحقيق التطور، إنهم بحق أحفاد أولئك الذين مارسوا التجارة مع القوافل الوافدة من كل حدب وصوب، ومنحوها الحماية على مدى تاريخ شبه الجزيرة العربية، مع عزمهم وتوثبهم وانفتاحهم لبناء حضارة عظيمة نرى شواهدها اليوم في الدولة السعودية الحديثة. * المكون السياسي ـ الاجتماعي تقف المملكة العربية السعودية على المسرح الدولي أيضا لتكون صوت السلام والاستقرار بحكم أنها تلعب دورا مركزيا في الشؤون الدولية مع تحمل مسؤولياتها الإنسانية بكل ثبات وإصرار. وما المبادرات التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز - مثل مبادرة حوار الأديان وحوار الحضارات التي لم تأت من فراغ - إلا شواهد على هذا الدور العالمي. فنحن ورثة تاريخ طويل من التفاعل بين الحضارات والتبادل الثقافي، وهذا يكسبنا في شبه الجزيرة العربية القدرة والإمكانية كي نمارس القيادة، لذا فإن هناك حاجة للحوار لتحقيق التفاهم المتبادل والسلام وتأمين مستقبل الإنسانية، وأود الاقتباس من القرآن، حيث يقول الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . إننا عازمون على السعي لتحقيق الاستقرار والسلام، لأن الاستقرار هو أساس الحضارات العظيمة، بينما الجغرافيا والتاريخ توجب علينا لعب دور محوري في العالم وفي الشؤون الإنسانية حاليا. إن برنامج «الجزيرة العربية الخضراء» يكتسب أهمية كبيرة نظرا إلى كونه أول مشروع استكشافي علمي متعدد الجوانب، وإن شبه الجزيرة العربية كانت الوجهة الأولى للهجرات البشرية – وليست مجرد محطة عبور فقط - وتظهر التنقيبات الأثرية أن شبه الجزيرة العربية كانت موطنا للمستوطنات البشرية لحقب طويلة وقبيل انتشار بعضها في موجات متعاقبة إلى أماكن أخرى في العالم. إننا نشعر بالسعادة الغامرة لكون البحوث العلمية التي تعرض في هذا المؤتمر تظهر أن التغيرات المناخية المتتالية التي تتراوح من حقب الجفاف إلى مواسم الأمطار التي عمت أرجاء شبه الجزيرة العربية - وقد أثبتت المكتشفات الحديثة وجود بحيرات وأنهار قديمة كانت السمة العامة للجزيرة العربية - لتخبرنا أن هذه البحوث والمكتشفات ما هي إلا مجرد بداية لمشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، وتثبت بالدليل العلمي نبوءة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل خمسة عشر قرنا حيث قال - صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا»، وهي دلالة قطعية على أنها كانت كذلك من قبل، وذلك ما يفتح المجال للقيام بمشاريع بحثية أخرى بين جامعة أكسفورد وشركاء آخرين مع خبراء الآثار السعوديين. إن الهيئة العامة للسياحة والآثار في السعودية تثمن بشكل كبير هذا التعاون في حقل الاكتشافات الأثرية التي تحظى بدعم كامل من جانب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز - يحفظهما الله - لتضع أهمية عظيمة على بعثات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار، ونحن نعمل بشكل غير مسبوق بالتعاون مع 30 فريقا علميا في أماكن عديدة من بلادنا، وبالتعاون مع بعثات آثار من بلدان كثيرة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان وبلجيكا وبولندا وفنلندا والنمسا، إضافة إلى معاهدنا الأكاديمية السعودية ونخبة من العلماء المتخصصين في الحقب التاريخية المختلفة. وفي سعينا لاستكشاف تاريخنا، نتعاون مع معاهد مرموقة مثل جامعة أكسفورد، لكشف اللثام عن حقب تاريخية وإلقاء أضواء على موقعنا ومستقبلنا في عداد حضارات العالم ودوله. ولكي نواصل المسيرة بناء على الجهود الصلبة التي قمنا بها في السابق، فإن الهيئة العامة للسياحة والآثار، وبالتعاون مع مؤسسات أخرى مثل جامعة أكسفورد، ومؤسساتنا الوطنية المتخصصة، ستقيم وحدة أبحاث دائمة تسمى «مركز الجزيرة العربية الخضراء» يكون محور اختصاصها دراسة البيئات الطبيعية والتغيرات المناخية القديمة وعلاقتها بالإنسان الذي تعايش معها أثناء سعيه للتأقلم مع البيئة الطبيعية المتغيرة. وفي الختام، وبناء على الاستكشافات الأخيرة وعلم التاريخ، فإننا نعتقد بكل ثقة إن شاء الله، أن الدور الذي تؤديه المملكة العربية السعودية حاليا، والذي ستؤديه في المستقبل، ليس وليد اللحظة أو مصطنعا، أو طارئا على التاريخ، بل ينبثق من صلب موقعنا الطبيعي كورثة لحقب متلاحقة من الحضارات العظيمة التي توّجها الإسلام، وكون بلادنا قبلة المسلمين. * من كلمة الأمير سلطان بن سلمان أمام «مؤتمر الجزيرة العربية الخضراء» في جامعة أكسفورد، يوم 2 أبريل (نيسان) 2014

عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين» عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين»

$
0
0
«المطلوب اليوم من المرأة المسلمة أن تبادر بكل جسارة للقيام بمهامها التاريخية، من دون خوف من شيء اسمه (التقاليد). فالتقاليد والأعراف شيء والدين والأحكام الشرعية شيء آخر تماما». لعل هذه العبارة الواردة في كتيب الدكتور عبد الله النفيسي: «العمل النسائي في الخليج الواقع والمرتجى»، الصادر عام 1986. تعطي تصورا عن بداية تقييم هذا المثقف الإسلامي الكويتي، لواقع الخطاب الحركي من خلال تياره النسوي. النفيسي في كتيبه الصغير، الذي عده الخطاب الحركي الدعوي النسوي في الخليج والسعودية «وثيقة»، صوّر المنهج الصحيح للعمل النسائي الحركي، والمجالات التي غاب عنها في مجتمع الخليج. بعد تواري الداعيات الكلاسيكيات، الواعظات القديمات، بأنشطتهن السهلة في المجتمعات النسوية، بدأ الزج بالنساء المسيسات، من قبل نشطاء التنظيمات أو التيارات والتوجهات الحركية، فيما يسمى بـ«قضية المرأة»، في خطوة تهدف إلى إشعال صراع فكري بين الناس لتحقيق مكاسب سياسية في المجتمعات الخليجية. النفيسي في مؤلفه الآخر، المنشور تحت عنوان «الفكر الحركي للتيارات الإسلامية»، الصادر علم 1995، اعترف بأن «ارتفاع حدة تحرك التيارات الإسلامية كان بسبب عمليات الهجرة الواسعة من الأرياف إلى المدن»، التي ترافق عادة، التنمية المتسارعة والتحديث الواسع والعشوائي، مضيفا: «المدن العربية والإسلامية غير قادرة على استيعاب هذه الهجرات الواسعة، فتتحول إلى أحزمة من الفقر والعوز والبطالة، حيث تتحول عمليا إلى حقول مناسبة لعمل التيارات الإسلامية، ويصير الدين في محصلة الأمر ملاذا آمنا للجماهير». من هنا، استغلت التيارات الحركية واقع المرأة العربية والخليجية، الذي اعترف النفيسي ذاته في كتيبه الأول، بكونه واقعا «متخلفا»، في توظيف أوهام حول وجود مؤامرة تتمثل في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وتغريب المرأة المسلمة في سبيل خدمة أغراض السياسة. بعد بداية استيعاب التيارات الحركية لأهمية توظيف المرأة، عبر النشاط الدعوي الحركي، بقيت مسألة فحوى الخطاب الحركي نفسه وآليات تصدره في الساحة، عبر إيجاد الثقة «بأفكار الإسلام»، من خلال العمل الثقافي والسياسي، بهدف «تثقيف ملايين الناس تثقيفا جماعيا بالثقافة الإسلامية، وتوليد الصراعات الفكرية بينهم على هذا الأساس». بحسب شرح النفيسي في كتابه «الفكر الحركي». هذه البداية المندفعة، خلقت مفارقات في الخطاب حول شؤون المرأة وقضاياها من منظور إسلامي، وإشكالية موازنتها مع متطلبات العصر الحديث. وهذا ما لاحظه النفيسي وهو ينتقد «حزب التحرير» وكلامه عن دستور دولة الخلافة بقوله: «يتوسع الدستور - يقصد دستور حزب التحرير في المادتين 34 و35 - في منح المرأة حقوقها الاجتماعية والسياسية، وفي الوقت نفسه، نجد بعض مواده تؤكد على أنها – أي المرأة - في الأصل، أم، وربة بيت، وعرض يجب أن يصان، وأن الأصل أن ينفصل الرجال عن النساء في المجتمع الإسلامي». لكن النفيسي وقع بذات التناقض في كتابه، عندما تناول حقوق المرأة المسلمة من منظور حركي. إذ يقول في الصفحة رقم 37: «يتصور البعض أن المرأة المسلمة غير مؤهلة لبناء حركة نسائية نشطة وجادة ومستقلة، وأن هناك قيودا شرعية إسلامية تحد من حركتها المستقلة عن الرجل. وهذا تصور خاطئ ناتج عن فهم خاطئ للإسلام... المطلوب من المرأة أن تبادر بكل جسارة للقيام بمهماتها التاريخية (من) دون الخوف». لكن النفيسي يؤكد في صفحة 22 من الكتاب قوله: «لقد آن الأوان لتقييم وتثمين دور ربة البيت تقييما اقتصاديا واجتماعيا يليق به، ولا بد من استصدار كافة التشريعات والقوانين لحماية ربة البيت وتسهيل مهمتها العظيمة الجليلة، وتشجيع الفتاة على العمل المنزلي والإبداع فيه، فقد يكون مخرجا لمشكلة العمالة الأجنبية». عليه، فهذه التناقضات والمفارقات القائمة، حاليا، في الخطاب النسوي الدعوي السعودي، لها جذور في التنظير المتعلق بالعمل النسائي نفسه، كما لاحظنا في كلام النفيسي، بين إطلاق يدها في العمل في فضاءات لا حصر لها، وبين فكرة التزامها البيت والكف عن النشاط في المجال العام. الإيمان بالقضية والوقوف ضدها استعراض وثيقة النفيسي المشار إليها، حول «العمل النسائي في الخليج.. الواقع والمرتجى»، ومحددات الخطاب الحركي في العمل النسوي الدعوي، كان ضروريا قبل تناول ملتقى مركز (باحثات) السعودي، في نسخته الثانية «المرأة ما لها وما عليها». فقد أنهى المركز أخيرا، ملتقاه بعد ست جلسات صباحية، وأخرى مسائية، استمرت يومين. وتزامن المؤتمر مع انتهاء مهلة الثلاثين يوما التي حددها الأمر الملكي، في تجريم الانضمام للأحزاب والتنظيمات الإرهابية، ومنها جماعة «الإخوان المسلمين»، ليعلن المركز بعدها، توصياته التي لم تبتعد عما خرج به الملتقى في نسخته الأولى قبل عام. ركز أعضاء مركز (باحثات) من كلا الجنسين، في عناوينهم وأوراق العمل التي وصفت بأنها «بحوث علمية»، وطرحت للمناقشة أمام حضور متواضع العدد، خصوصا في اليوم الثاني، على هدف واحد، هو «خلق وعي جمعي» محدد. د. نورة العمر، مدير عام القسم النسائي في مركز باحثات لدراسات المرأة، والمشرفة على لجان الملتقى، ورئيس مجلس إدارة «رابطة المنظمات النسائية الإسلامية العالمية» التي أعلن المركز عن إنشائها ورعايته الرسمية لها من العاصمة التركية إسطنبول، أثارت مسألة غموض آلية ما أعد حول ماهية العينة المستهدفة وحجمها، ومدى استيفاء الشروط الأكاديمية لصياغة الأسئلة بموضوعية، وغير ذلك من شروط إعداد الدراسات الاجتماعية، قبل الإعلان والترويج لها. جاء في بعض هذه العينات، أن 47 في المائة منها، ترى أن الرجل أحق بالعمل الوظيفي من المرأة. بينما أقر 43 في المائة، بأن عمل المرأة خارج بيتها، يؤثر سلبا على أسرتها وأولادها. ووجد 41 في المائة من النساء اللواتي استهدفتهن الدراسة، أن عمل المرأة خارج المنزل، يؤثر سلبا على حياتها الزوجية، فيما رأت 36 في المائة من نساء العينة، أن عمل المرأة قد يؤدي إلى الاختلاط المحرم شرعا. تجدر الإشارة هنا، إلى أن «رابطة المنظمات النسائية الإسلامية العالمية»، انتخبت المهندسة المصرية، كاميليا حلمي، أمينا عاما لها ومتحدثا رسميا، بينما ترأس «اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل»، وهي مسؤولة المرأة في حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، التي صنّفت في مصر والسعودية أخيرا، جماعة إرهابية ووضعت على قائمة المنظمات الإرهابية. وعلى الرغم من نتائج الدراسة، التي استهلت بها فعاليات الملتقى، فإن التعريف بالمشاركات في ملتقى (باحثات)، اللواتي يشغلن وظائف مختلفة في القطاعين العام والخاص، وتقديم سيرهن الذاتية، استهلك الكثير من الوقت المحدد للجلسات. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مفارقات عدة خلال نشاط هذه الجولة، بدأت بمشاركة د. نورة العدوان، عضو مجلس الشورى، التي أدارت إحدى الجلسات رغم تأكيد د. وفاء العيسى، عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود، ورئيسة لجنة التشريفات في (باحثات)، أن «الطموح الحقيقي للمرأة (هو) البيت وليست المشاركات الاجتماعية والسياسية»، حسب تعليقها. هذا التحذير، لم يمنع د. العيسى نفسها، من النشاط الأكاديمي في إحدى الجامعات السعودية، واسمها مسجل ضمن ديوان الخدمة المدنية، إلى جانب المهام الأخرى التي تقوم بها. وقد عادت العيسى وكررت في الملتقى نفسه، تحذيراتها من خطورة فكرة تمكين المرأة بالاستقواء المادي، لأن هذا يقضي على مبدأ «القوامة بالإنفاق». المعاشرة.. النسل.. القوامة حقوق الرجل الشرعية في ملتقى المرأة السعودية، كانت الحاضر اللافت في ثنايا الأوراق، وحديث المشاركين والمشاركات على حد سواء. فإلى جانب الإخلال بموازين القوامة، كان لافتا تنبيه د. محمد العقيل، رئيس قسم الأنظمة في كلية الشريعة في الأحساء، خلال طرحه ورقة أعدها بعنوان «اعتبار المقاصد الشرعية في فقه الأسرة»، من خطورة إخلال الوظائف الليلية بحق الرجل في «المعاشرة». وفي مفارقات أخرى، جاء اعتراف د. حصة الوايلي، مديرة التوعية الإسلامية في وزارة التربية والتعليم، خلال ترؤسها للجلسة الخامسة، بما فرضه الواقع الاجتماعي، وأهمية توظيف المرأة نتيجة لمضاعفة متطلبات الحياة التي تفرض زيادة الدخل الأسري. ولخّصت الكاتبة وفاء الدباس، أوراق عمل من سبقنها في التحدث عن مؤامرة خارجية بأذرع وأصابع داخلية تعمل من أجل محو الحضارة الإسلامية، تحت غطاء العولمة، بقولها، إن «للمرأة عملا رئيسا هو صناعة المجتمع والأسرة والعمل الثانوي يكمن خارج المنزل». صوت يتيم في مشاركات الملتقى اعترض على مجمل ما طرح خلاله، جاء من قبل د.أحمد الصقيه، القاضي السابق في ديوان المظالم، خلال ترؤسه إحدى الجلسات، معلقا على ما ذكرته الأوراق بقوله: «أتحفظ على ما ذكر بشأن مبدأ استقلال المرأة سوى للحاجة فقط بتضييق مطلق في الشريعة الإسلامية، بناء على أننا ننظر لمآلات محققة»، متسائلا «ماذا ستفعل المرأة التي ورثت الملايين؟ هل عليها أن تبقى تحت القوامة والرجل ينفق؟»، مطالبا بضرورة الابتعاد عن إسقاطات غير صحيحة. وقد أثار تعليقه، على ما يبدو، د.فؤاد العبد الكريم مؤسس ورئيس مركز «باحثات»، الذي ظهر من خلال نقل البث المباشر، يتبادل حديثا جانبيا مع الصقيه بعد تعليقه. د. خالد السعدي عضو هيئة التدريس في قسم التربية وعلم النفس، بكلية التربية في جامعة الأمام، لم يشأ غير أن يدلي بتشخيصه للواقع النفسي والجسدي للمرأة العاملة، والتي تصارع في رأيه «القلق والإرهاق والملل والإحباط والهدر بالطاقات الرجالية». أما عن عنصر التغيرات الفسيولوجية، فظهر من خلال بحث السعدي، انعكاس عمل المرأة على العقم وانخفاض معدلات الخصوبة، رغم أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن عدد المواليد في السعودية، بلغ خلال العام 2012. أكثر من ستين ألفا، بالإضافة إلى مشكلات أخرى لخصها السعدي، بالعجز عن الإرضاع، وارتفاع معدلات الطلاق، والخيانة الزوجية، والعنوسة، والتحرش، وانحراف الأبناء. خطاب خاص لنساء «القاعدة» وعام لبقية النساء د. نورة السعد خريجة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما سجل لها في محافل أخرى تحذيراتها من إفساد برامج الابتعاث لأخلاقيات الطلاب والطالبات المبتعثين، حذرت من أن «اعتساف القيم المجتمعية، واستحداث مشكلات، وترويجها إعلاميا ليتلبسها المجتمع، ليس سوى استيراد لمشكلات المرأة الغربية والاستعانة بالحلول الوضعية بحسب تأثرات المجتمعات الغربية». السعد رئيسة مركز (التمكين للمستقبل للدراسات والاستشارات)، ونائب رئيس منظمة رابطة الداعيات المسلمات، تركز دوما على «اصطياد» مظاهر التغريب في المجتمع السعودي، حتى الخفي منها، من ذلك زعمها بخطورة حملة التوعية النسائية بسرطان الثدي، التي أطلقتها إحدى الطبيبات السعوديات بعد أن من الله عليها بالشفاء منه. وبحسب نورة السعد، فهذه «الحملات» مستورد غربي. وكذلك استنكارها الإعلان عن الرقم المجاني للإبلاغ عن حالات العنف الأسري، بذريعة حث الأطفال والفتيات على التجرؤ على أوليائهم. تأثير المرأة على مستوى التنمية لم تغفل عنه د. أسماء الرويشد، رئيسة (مركز آسيا)، في كلمتها التي ألقتها بالنيابة عنها سيدة أخرى، قالت: إن من الواجب تأمين راتب كاف لربة البيت لكي تتمكن من القيام بأعبائها التربوية والأسرية، يوازي، أي الراتب، ما يقدم للمرأة العاملة في القطاعات الأخرى. منبهة إلى ضرورة سن ضوابط لعمل المرأة، مستوحاة من قيم المجتمع، وعدم استيرادها من الخارج. تجدر الإشارة إلى استضافة كل من الداعية أسماء الرويشيد، ورقية المحارب في مركزيهما، القيادية المصرية في تنظيم الإخوان المسلمين، كاميليا. وبينما تسعى الرموز النسوية في الخطاب الدعوي الحركي إلى رفض مطالب حقوقية، كسن نظام لتجريم التحرش، ومنع تزويج الصغيرات، والوقوف بوجه قرار عمل المرأة «كاشيرة» بسبب الاختلاط وعدم وجود بيئة آمنة لعمل المرأة، وكذلك اشتراط موافقة ولي الأمر لعمل المرأة. إلا أنه لم يسجل لأي من تلك الأسماء النسائية التي حافظت، طوال سنوات، على حضورها في مناقشات القضايا كافة، وانخراطهن في القضايا السياسية المحلية والإقليمية، الاستنكار والاحتساب على من خرجن من النساء السعوديات إلى مواقع القتال والاضطرابات في الخارج، رغم خطورة الوقوع في أيدي العصابات والشبيحة، بدءا من وفاء اليحيى التي هربت إلى العراق، ورضيت بالزرقاوي زوجا لها قبل أن تقتل هناك، أو فرار أروى البغدادي إلى اليمن، مع شقيقها وزوجته وابنة شقيقها الآخر، وتركها أطفالها من دون رعاية، واكتفائها بوداع زوجها بتغريدة موجزة. كذلك كان الصمت سيد الموقف، بعد هروب وفاء الشهري مع صغارها إلى اليمن، وندائها نساء السعودية للحاق بها وإعلان نصرتها، ودعمها لهيلة القصير، أو «سيدة القاعدة» كما وصفها التنظيم، التي صدر بحقها عقوبة السجن 13 عاما بعد محاكمتها، لدعمها «القاعدة» بالمال والسلاح، وأخيرا، الفتاة ندى معيض، أو «أخت جليبيب» التي أعلنت، عبر حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولها إلى الأراضي السورية والتحاقها بصفوف تنظيم «داعش» وحيدة من دون محرم. حق إعلان الانتماء «أول حق من حقوق المرأة الذي يجب أن تعيه جيدا وتتمسك به، هو حقها في إعلان انتمائها إلى أمة التوحيد». هذا ما جاء في كتاب د. سعاد الناصر «قضية المرأة رؤية تأصيلية»، حيث أكدت «أنه يمكن للمرأة أن تجمع بين العمل الاجتماعي والسياسي وبين العبادة، مثلها في ذلك مثل الرجل». من هذا المدخل، يمكن التوصل إلى فهم دوافع ومبررات انخراط الناشطات السعوديات في فضاء الدعوة الحركية في الشؤون السياسية، كما بدا لافتا أخيرا عبر حسابات «تويتر». في وثيقته، خلص د.عبد الله النفيسي إلى أن حركة المرأة في صدر الإسلام، كانت حركة مستقلة وغير تابعة لحركة الرجل، كما هو الحال في كثير من المجتمعات العربية الحالية، قائلا: «يتبين لنا أن مجتمع الإسلام ليس قيم تقاليد وأعراف تعزل النساء عن الفعل الاجتماعي، والبعض يتصور أن التشدد في مسألة المرأة وعزلها اجتماعيا لسد الذرائع، ومهما كان سد الذرائع فلا يجب أن يمسخ أصل النظام الإسلامي العام، الذي يقضي بإشراك الرجال والنساء في الحياة العامة». الأسماء ذاتها، من النساء رافعات الأصابع بشعار «رابعة»، اشتهرن قبل أن يختفي الشعار، أو تعود جزئيا، حسب الشعور الأمني، مع قرب انتهاء مهلة الأمر الملكي ضد الجماعات المحظورة. كان لافتا، ما سجلته حسابات هؤلاء، من تغريدات ذات نفس سياسي أصولي، متعاطف مع رموز الجماعات الأصولية وحركاتها، من بينها تغريدة د. ابتسام الجابري، التي وجهتها إلى أحمد الأسير في لبنان وقالت فيها: «شيخنا لا تمكنهم منك ولا تسمح باعتقالك، فهم لن يتوقفوا عن إيذاء أهل السنة ولو ادعوا ذلك، ولو توقفوا اليوم، سيعودون غدا وبقاء مثلك منهم». وتغريدة أخرى للجابري تقول فيها: «ردا على ما يشهده الإعلام المصري الخليجي، من حملة مسعورة يتم فيها شيطنة جماعة الإخوان المسلمين، ورميهم بكل شر كذبا وبهتانا». وتضيف: «طريق النصر ليس ممهدا فدونه تراق الدماء». كذلك مشاركة للدكتورة رقية المحارب في السياق نفسه: «النصرة» لجماعة الإخوان بمصر، دونت فيها: «الشعب المصري يعلن أنه حر وأن بيعه (ببضع) مليارات لمصالح فردية، لن يهنأ بها من قبض الثمن، فليكتب التاريخ هذه الملحمة التي تجري الآن في الميادين». وتعلق د. أفراح الحميضي على فض اعتصام رابعة بقولها: «اللهم لا تشمت الأعداء بنا ولا تجعلنا فرجة للحاقدين، وأعز المسلمين، ودمر من أراد بمصر شرا واجعل تدبيره تدميره». لتتوجه بدعوة في تغريدة أخرى نصها: «اللهم عليك بكل خائن أشعل أرض مصر السلام وحارب الإسلام، اللهم أبدل خوفهم أمنا (وأدر) دائرتك على البغاة». هل يمكن ضبط الخطاب النسوي السعودي؟ يطرح ما تقدم حول حالة الخطاب النسوي الدعوي في السعودية، سؤالا مهما، حول سبل ومظاهر ضبط الساحة الدعوية النسوية خاصة ومظاهرها. تأكيدات وزارة الشؤون الإسلامية بحسب معلومات رسمية حصلت عليها «الشرق الأوسط»، تفيد بأن أيا من الأسماء - النساء - الشهيرة في الساحة الدعوية، لم تحصل على ترخيص في مجال الدعوة أو التعاون مع الوزارة، رغم كثافة الأنشطة المتنوعة التي تقام في المدارس والجامعات والجوامع، ويتم الإعلان عنها من حين إلى آخر، إلى جانب عدم ترخيص وزارة الشؤون الإسلامية لأي مكاتب دعوية نسائية. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر، حول ماهية الغطاء الذي تؤدي ضمنه الداعيات الشهيرات، في مختلف المحافل برامجهن الدعوية، إذا كانت الوزارة المشرفة على هذا النشاط تقول لا علم لنا بهن؟ الإجابة تكمن خارج الإطار الحكومي نفسه، حسب ما نظّر له د.عبد الله النفيسي في وثيقته حين قال: «هناك حاجة ماسة للعمل النسائي الجاد والمنظم، الجاد في منهجه ومساره وحركته، والمنظم في خطواته ومراحله وتفكيره وقياداته. أين نبدأ؟ هل نبدأ من القضية الاجتماعية؟ أم من القضية الاقتصادية؟ أم من القضية السياسية؟ أم من القضية الثقافية التعليمية؟ أم نبدأ عبر مبادرة واحدة وكبيرة شاملة؟». من هذه الدعوة في أواسط الثمانينات، بدأت الحركة الدعوية النسوية بالسعودية في التمدد والتغلغل عبر مراكز البحوث والدراسات (الاجتماعية والتربوية والنفسية والاقتصادية)، التي اتسعت رقعتها في عدد من المناطق السعودية. وبحسب ما ذكره النفيسي في فصل «الجمعيات النسائية»، دعا إلى ضرورة إعادة النظر في بعض أوضاع العمل النسائي، لإعادة الثقة به، من خلال فتح الجمعيات النسائية أبوابها للنساء الراغبات في الانضمام، وأن تكف بعض المحتكرات للعمل النسائي عن رفضهن التام لانضمام الدماء الشابة والجديدة والمتحركة لتلك الجمعيات، منتقدا سيطرة شخصيات مترهلة تحولت إلى إقطاعية نخبوية وطبقية في عدد من الجمعيات النسائية. وأضاف النفيسي إلى ذلك، إعادة النظر في أوضاع الصحافة النسائية التي عدها نافذة العمل النسائي المطلة على الجمهور. من هنا نفهم نشأة عدد من المراكز محليا، لعل الأبرز بينها مركز «آسيا للاستشارات التربوية والنفسية»، للداعية أسماء الرويشد، ومركز «التمكين للمستقبل» للاستشارات والدراسات، للداعية الدكتورة نورة السعد، وموقع «لها أون لاين» الإلكتروني، ومركز «النجاح للاستشارات» للداعية رقية المحارب. وجميع هذه المنابر تروج لمناشط ومحاضرات ودورات ذات صبغة سياسية وثقافية محددة، بالإضافة إلى اعتبارها صوتا إعلاميا لمالكاته وأفكارهن، وجميع هذه النوافذ ابتدأت نشأتها بإصدار مجلات إلكترونية وأخرى مطبوعة. في السعودية تعود صلاحية الترخيص لمراكز الأبحاث والدراسات النسائية، إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، في ضوابط حددتها اللائحة المنظمة لعمل المراكز الاجتماعية، أو من خلال وزارة التجارة، بمنح ترخيص لمركز غير ربحي، كما هو قائم مع «مركز باحثات». د. عبد الله السدحان، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية، ذكر لـ«الشرق الأوسط»، أن ضوابط المراكز الاجتماعية، إنما تهدف إلى تنظيم مراكز البحوث والدراسات الاجتماعية الأهلية، وتفعيل دورها في المجتمع، وتمكينها من مباشرة اختصاصها وفق الأساليب العلمية الحديثة، بغرض رصد القضايا والظواهر والمشكلات الاجتماعية في السعودية، وإجراء البحوث والدراسات والمسوح الاجتماعية حولها، واقتراح التوصيات والحلول المناسبة لها، وعقد الدورات التدريبية والتأهيلية، وورش العمل، واللقاءات العلمية، والمنتديات ذات العلاقة بالشأن الاجتماعي، وعدم القيام بأجراء أي بحوث أو دراسات أو استشارات خارجة عن هذا النطاق. وبين السدحان أن هذه التراخيص تصدر للمواطنين من الجنسين الرجال والنساء، وليست خاصة بجنس من دون آخر، وفقا لعدد من الشروط يمكن الحصول عليها من موقع الوزارة، ورفع الطلب آليا كذلك. وحول ممارسة عدد من المراكز النسوية ما يغاير تخصصاتها المعلن عنها، وخصوصا الجانب الدعوي، أوضح السدحان، أنه لا يسمح لهذه المراكز بتجاوز المهام المحددة لها في تقديم استشارات نفسية وتربوية، ومخاطبة المراهقين. وذكّر قائلا: يمكن لمن يرغب في تقديم هذه الاستشارات، الحصول على ترخيص لمركز للاستشارات الأسري وفق ضوابط محددة، موجودة على موقع الوزارة، ويمكن التقدم بطلب الترخيص آليا في حال توافرت الشروط المطلوبة. أما ما يتعلق بمجال الإشراف والمتابعة والرقابة، فقد بادرت الوزارة، كما أوضح السدحان، من تاريخ صدور اللوائح والقواعد في العمل، على استكمال الإجراءات واتخاذ التدابير لتنظيم عملية الحصول على الترخيص، والمتابعة والإشراف والرقابة. وتم تشكيل الكثير من اللجان الفنية المتخصصة في مختلف مناطق السعودية، من أصحاب الخبرات الإدارية والفنية للأشراف على هذه المراكز وفقا لتنظيم محدد. وحول عدد المراكز الاجتماعية النسوية بالسعودية، اكتفى د. عبد الله السدحان بالقول: «منذ صدور الضوابط التنظيمية لمراكز البحوث والدراسات الاجتماعية، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بلغ عدد طلبات التراخيص من القطاع النسائي، أربعة مراكز حتى الآن». الساحة الدعوية النسائية في السعودية متشعبة ونشطة، ينفرد في العمل بها لون واحد متشابه، يغرد بلحن خاص، بعيد عن كل الجو المحيط به.

الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

$
0
0
يمكن القول إن العلاقات الروسية - الأميركية وصلت إلى أدنى درجاتها منذ نهاية الحرب الباردة. فقد ترك تصرف روسيا الصادم بتجاهل سيادة أوكرانيا وغزو إقليم القرم واضعي السياسات حول العالم في حالة من الارتباك, إذ تشهد صور القوات الروسية المحيطة بالمنشآت العسكرية والمطارات على انتهاء محاولة «إعادة ضبط» العلاقات الروسية الأميركية، التي بدأت منذ خمس سنوات في قمة الدول العشرين التي أقيمت في لندن. ومنذ ذلك الحين، وبعيدا عن اتفاقية خفض السلاح النووي الجديدة وجولات التعاون الدبلوماسي بين حين وآخر، لا تشهد العلاقات بين الدولتين سوى التدهور. ليس من الغريب أن تحدث هذه الانتكاسة في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا. يأتي الغزو الروسي للقرم في فصل آخر جديد من ملحمة ما بعد الاتحاد السوفياتي المعروفة، التي يلجأ فيها الكرملين إلى التدخلات العسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق التي أصبحت مستقلة، كوسيلة لإضعاف حكومات هذه الدول المجاورة وتحدي سياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية عامة. ترمز عدم رغبة موسكو في المساعدة على حل الصراعات المستمرة في مناطق مثل ترانسنستريا، وغزوها العدواني لجورجيا في عام 2008، واعتداؤها الأخير على سيادة أوكرانيا باحتلال إقليم القرم، إلى مخططات روسيا لإعادة إثبات هيمنتها على نطاق إقليمي. علاوة على ذلك، لا تقف هذه المحاولات لإثبات القوة عند الحدود القريبة من الاتحاد الروسي. في منطقة الشرق الأوسط، تستمر روسيا في دعم حليفتها القديمة سوريا: وتقدم غطاء سياسيا فعَّالا لإيران ومساعدة تقنية لبرنامجها النووي؛ وتسعى بانتهازية إلى تعميق علاقاتها مع مصر والأردن في المجالات التي تركتها الولايات المتحدة فارغة. إن ما تملكه المنطقة من مصادر الطاقة وأسواق الصناعة والسلاح المحتملة وتصدير الفكر الإسلامي المتطرف يجعل من الضروري للغاية عدم ترك المنطقة دون اهتمام. وفي حين كان يجري الإعداد لاستراتيجية بوتين في استعراض القوة منذ عدة أعوام، فإنها أصبحت ذات تأثير في الوقت الحالي. تنبع جرأة صناع القرار في السياسة الخارجية الروسية من اعتقادهم بأن الإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن القيادة والعزم الضروري لكبح أطماعهم؛ ولكن هذا مجرد حدس. في الوقت الحالي يضع واضعو السياسات الخارجية الأميركيون استراتيجيات بشأن كيفية تحقيق التوازن بين تطلعات روسيا الجيوسياسية التي تمثل تهديدا، وفي الوقت ذاته تقديم حوافز لروسيا للتعاون على نحو بنّاء مع المجتمع الدولي. * التخندق في الخارج القريب يجد واضعو السياسات والخبراء الأميركيون في شؤون الخارج القريب من روسيا أن التعامل مع طموحات بوتين بإعادة روسيا إلى مجد يشبه عهد الاتحاد السوفياتي هو التحدي الأول في السياسة الخارجية منذ أعوام وحتى الآن. أشار بوتين في عدة مواقف إلى أنه يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر مأساة حلت في القرن العشرين. تعيش دول الاتحاد السوفياتي المنهار بالإضافة إلى الدول التابعة له في ظل نفوذ روسيا منذ أعوام استقلالها الأولى. وعلى الرغم من تضاؤل النفوذ الروسي كثيرا في 11 دولة بعد عهد الشيوعية والتي أصبحت اليوم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنها ما زالت ذات أهمية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي سابقا. ما زالت بعض من هذه الدول بالفعل داخل نطاق النفوذ الروسي، لا سيما تلك الواقعة في آسيا الوسطى. وفي المقابل، يجاهد بوتين من أجل تعزيز هيمنة بلاده على دول جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا)، بالإضافة إلى الدول التي تقع مباشرة على حدود الاتحاد الأوروبي، مثل مولدوفا وأوكرانيا. يظل النفوذ الغربي كبيرا في هذه الدول؛ كما تظل هناك آمال كبيرة في تحقيق تحول ديمقراطي ورغبة في تكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي. أصبحت كل من أرمينيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا في الوقت الحالي قطع شطرنج في الصراع العنيف الشهير الدائر بين روسيا والغرب. تشارك الاستثمارات الأميركية في التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي في هذه الدول بنسبة كبيرة. وتؤدي هذه الدول، التي ما زالت في مراحل انتقالية، دورا جيوسياسيا مهما في الربط بين الغرب والشرق، وأوروبا وآسيا، وتعد منطقة عازلة بين روسيا وأوروبا. تمثل أوكرانيا بمفردها مركزا ذا أهمية قصوى لنقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، ولروسيا على وجه التحديد. من المعروف أن بوتين يملك نفوذا كبيرا في مجال الاقتصاد والطاقة والجغرافيا السياسية في الدول المجاورة لروسيا. وكان لفرض حظر على منتجات جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا نتائج مدمرة على اقتصاد هذه الدول في الماضي. ويظل ارتفاع أسعار الطاقة أو قطع إمدادات الطاقة كلية عن مولدوفا وأوكرانيا أداة أخرى شديدة الفاعلية تستخدمها روسيا. وكما هو الحال في معظم الدول في المنطقة، تعاني هذه الدول الهشة أيضا من قضايا تتعلق بوحدة أراضيها ويستمر وجود القوات المسلحة الروسية في مناطقها الانفصالية ليمثل مشكلة كبرى. منح دور حفظ السلام الذي عينت روسيا ذاتها لتأديته فرصة دخول لا تقدر بثمن عندما اندلع الصراع في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008. أسفر الصراع عن مقتل وتشريد الآلاف داخل الأراضي ذات السيادة الجورجية، خارج مناطق الصراع. وأدى ضعف رد الفعل الدولي مع عدم وجود إجراء من جانب الغرب لمعاقبة روسيا بسبب تدخلها غير المشروع إلى تعزيز اعتقاد بوتين بضعف وعجز الغرب. في سبيل مواجهة محاولات الاتحاد الأوروبي للتوسع شرقا، أسس بوتين اتحاد أوراسيا الذي من المقرر أن يتكون رسميا في عام 2015. يضع الكيان الأول لهذه المبادرة، بقيادة روسيا، اتحاد الجمارك الأوراسي، روسيا البيضاء وكازاخستان من بين أعضائه. كما أدرج الاتحاد أرمينيا كمرشح للعضوية بعد أن قرر الرئيس سيرج سيركسيان الامتناع عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر (أيلول) عام 2013. استغل بوتين بفاعلية الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني كاراباخ لتقديم أجندته الخاصة. بعد أن لمح علانية لاحتمالية تصعيد الصراع في هذه المنطقة ببيع أسلحة إلى أذربيجان، استطاع إقناع سركسيان بترك المباحثات المطولة من أجل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كانت تسبق قمة فيلنيوس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013. بعد أن استمروا في الصراع من أجل تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا، أصبح قادة جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا مقتنعين بأن مصير استقلالهم في يد الغرب. لا يمكن ضمان نتيجة ذلك سوى بتحقيق مزيد من التكامل الذي لا يمكن الرجوع فيه مع الغرب؛ وبالتالي، يأتي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على قمة أجندات حكومات هذه الدول. بعد الاحتلال العسكري الروسي الحالي لإقليم القرم في أوكرانيا، والتهديد الواضح بغزو أجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، أصبحت سيادة الدولة معرضة للخطر. تشكل أزمة أوكرانيا تحديا رئيسا للولايات المتحدة حيث إنها أدت إلى تدهور شديد في العلاقات الروسية الأميركية. وقد تحدث نتائج هذه الأزمة تغييرا كبيرا في ميزان القوى العالمي الراهن، ويعرقل النفوذ الأميركي خارج وسط أوروبا وشرقها أوراسيا. منذ عدة أشهر فقط لم يكن مسؤولون أميركيون ليعترفوا صراحة بفكرة أن هناك ما يشبه الحرب الباردة يدور الآن بيد أن المحللين يعترفون الآن صراحة بـ«لعبة الشطرنج» التي يلعبها بوتين ضد الغرب. أصدرت واشنطن بيانات صريحة ضد تصرفات بوتين، وفرضت عقوبات على بعض الشخصيات من ذوي النفوذ في الحكومة الروسية بتجميد أرصدتهم الخارجية، وفرضت قيودا على سفرهم وسحبت تأشيراتهم. ووقفت الولايات المتحدة إلى جانب المجتمع الدولي الكبير في إدانة الاستفتاء الذي أجري في القرم لتقرير ما إذا كان الإقليم سيظل جزءا من أوكرانيا. وعلى الرغم من أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رفض هذا الاستفتاء، فإن حكومة القرم أجرت الاستفتاء غير الدستوري في 16 مارس (آذار). ووفقا للسلطات المساندة من جهة الروس في القرم، صوت 94 في المائة من المشاركين في استفتاء 16 مارس لصالح انفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا. ردا على ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بزيادة العقوبات التي تستهدف شخصيات روسية أخرى مؤثرة. وفي 17 مارس، وقع الرئيس أوباما على قرار رئاسي يدرج قائمة بالشخصيات الروسية التي ستفرض عقوبات ضدها. تتضمن هذه القائمة المكونة من 11 اسما (تدرج قائمة الاتحاد الأوروبي 21 اسما) سياسيين وبرلمانيين روسا ومساعدي ومستشاري الرئيس بوتين بالإضافة إلى تجار أسلحة روس وداعمين ماليين رئيسين لأفراد في الحكومة الروسية. كما تضمنت قائمة الشخصيات التي فرضت عليها عقوبات الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا بعد توجيه اتهامات ضده. يسري اعتقاد بين واضعي السياسات الخارجية الأميركيين بأنه ما زال من الممكن حل أزمة أوكرانيا عن طريق الدبلوماسية. المقصود من هذه العقوبات هو بعث رسالة قوية إلى القادة الروس والضغط على الحكومة من أجل التعاون مع المجتمع الدولي. ولكن تتسم المساعي إلى إيقاف روسيا المتهورة بأنها رد فعل بدلا من أن تكون جزءا من تخطيط استراتيجي، وفي ذلك عجز عن الانتباه إلى أن اعتداء موسكو الأخير على دولة أخرى مستقلة يعد جزءا من مبادرة أكبر يقودها بوتين لتعزيز فكرة أن الاتحاد الروسي طرف قوي على الساحة العالمية. حتى الآن أثبتت جميع العقوبات التي فرضت بسبب سياسات بوتين في أوكرانيا أنها غير فاعلة. بعد الاستفتاء، صوت مجلس الدوما الروسي لصالح ضم إقليم القرم. وفي 18 مارس، وقع بوتين ومسؤولو حكومة القرم معاهدة لضم شبه الجزيرة إلى روسيا. وسوف تتم الاتفاقية بمجرد أن تقرها المحكمة الدستورية الروسية ويصادق عليها البرلمان الروسي. ويسبب هذا التطور الأخير قلقا بالغا لدى الغرب. يعني فشل العقوبات حتى الآن في الضغط على بوتين من أجل الالتزام بمطالب الغرب واحترام حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره، أنه يجب النظر في طرق أخرى لحل الأزمة. في الوقت الحالي، تشمل هذه الطرق استمرار المباحثات الأميركية مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والناتو، ومن بينهم بولندا ودول البلطيق من أجل التأكيد على رغبة أميركا في دعم شركائها الدوليين وزيادة التكاليف التي تسددها روسيا جراء تصرفاتها غير المشروعة في إقليم القرم. * العودة إلى التدخل في الشرق الأدنى قبل بداية المواجهة السياسية حول القرم، كان أكبر نموذج على فشل محاولات ضبط العلاقات هو عجز القوى عن الوصول إلى طريق مشترك ذي نفع متبادل للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية الوحشية المندلعة في سوريا. وفي ظل توفر تقييم استخباراتي يكشف عن أن عملاء الحكومة السورية استخدموا عن عمد أسلحة كيماوية ضد سكانها المدنيين، بدأ مخططو السياسات الأميركيون في صياغة ردود محتملة لما يمكن أن يمنع شن مزيد من الهجمات من جهة الرئيس السوري؛ كان أحدها شن حملة قصف جوي لمواقع وقواعد عسكرية. بعيدا عن هذه الأحداث المتلاحقة، امتد دعم موسكو المستمر للنظام السوري منذ عقود، بداية من عام 1970 تحت حكم حافظ الأسد واستمر مع تولي ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد الحكم. بعد أن تحولت مظاهرات الربيع العربي السلمية في سوريا إلى عنف متزايد مع الاعتداءات العنيفة التي تقوم بها الدولة في صيف عام 2011، تزايد تدخل روسيا على المستويين المحلي والدولي. من وجهة نظر الكرملين هناك كثير من الأشياء المعرضة للخطر: منشأة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط في سوريا؛ ومصنعو السلاح الروس الذين يشكلون نسبة 48 في المائة من الواردات السورية أثناء توسعها المطرد في التسليح ما بين عامي 2006 و2010؛ وآخر حليف عربي جدير بالثقة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والذي كانت روسيا تأمل من خلاله امتلاك نفوذ سياسي في الشرق الأوسط. شن بوتين، الذي أزعجته احتمالات إضعاف الأسد عسكريا، حملة دبلوماسية لوقف القصف الوشيك، وسمح لوزير خارجيته بالتمسك بتعبير بلاغي صرح به نظيره الأميركي. منحت عدم رغبة أوباما في اتخاذ إجراء دون موافقة الكونغرس وقتا ومجالا للروس للتوسط في قرار مجلس الأمن رقم 2118، توافق بموجبه الحكومة السورية على التخلي عن أسلحتها الكيماوية، مما يلغي مبرر شن رد مسلح على المذبحة التي يرتكبها نظام الأسد ضد شعبه. عدت جميع العواصم الغربية هذا الحل السلمي للأزمة تسوية ناجحة، وخطوة تجاه إعادة الروح إلى العلاقات، والتي كانت تلفظ أنفاسها بالكاد بسبب الخلافات حول الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، والحماية التي قدمتها روسيا للموظف المتعاقد سابقا في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين الذي جرت إدانته؛ والطرق الدبلوماسية المسدودة بشأن الصراع السوري والبرنامج النووي الإيراني. ولكن ظهر التردد الأميركي في اتخاذ رد فعل أكثر حسما تجاه تجاوز «الخط الأحمر» في صورة ضعف العزيمة الأميركية. كذلك كانت الحالة مع طهران، التي لم يقل دعمها للأسد قيد أنملة عندما وردت أنباء وقوع هجوم على غوطة دمشق. أدان الرئيس المنتخب حديثا حسن روحاني استخدام غاز الأعصاب سارين، ولكنه لم يحدد من المتورط في استخدامه. وبعيدا عن هذا الانتقاد، استمر إمداد إيران للقوات الموالية للحكومة بالمقاتلين والأسلحة والمال والدعم اللوجيستي دون توقف. وعكس انعدام خوف إيران من الرقابة الدولية بسبب دعمها للنظام الوحشي موقفا متجرئا يثق في أن واشنطن ستُبعد القصف الإسرائيلي وربما تكون مرنة في مفاوضات 5+1 التالية. يرجع جزء من الفضل فيما تحقق من مكاسب إيران الأخيرة على الجبهة النووية، وتخفيف العقوبات، وما يتعلق بسوريا إلى مصالحها المتماشية مع مصالح موسكو، ويرجع أيضا إلى التخطيط الروسي. ومنذ عام 1995، صدّرت روسيا تكنولوجيا نووية إلى إيران، على الرغم من احتجاجات الحكومات الغربية. يشترك القادة الغربيون في مخاوفهم بشأن مسيرة المرشد الأعلى علي خامنئي المزعومة لتسليح برنامج بلاده للطاقة النووية. تفاقمت هذه المخاوف جراء المباحثات الجارية لإقامة مفاعل ثان يمد الحكومة الروسية بالنفط والنفوذ. وفيما يتعلق بمجموعة الدول 5+1، قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دعما راسخا لمساعي طهران لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا، في جزء كبير من حملة روسيا الواسعة لرفع العقوبات كوسيلة للحفاظ على النظام العالمي. وعلى صعيد سوريا، يتعلق التعاون الروسي مع إيران بتداخل المصالح بدلا من التخطيط للتدخل من الكرملين؛ بيد أن استخدام مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة بيدالي تشوركين المستمر لحق الفيتو حقق حماية فعالة للعرب والفرس من أعضاء هذا الثالوث الاستبدادي ضد اتخاذ إجراء أكثر حسما ضدهم في الجمعية العامة. يجري تجديد العلاقات في مناطق أخرى في العالم العربي، تتضمن مصر الشريك القديم لروسيا. وفي ظل قرار إدارة أوباما بتقييد مبيعات الأسلحة إلى مصر في أعقاب إطاحة الجيش بالحكومة الإسلامية المدنية في يوليو (تموز) 2013، وجدت روسيا فرصة لسد هذا الفراغ. تلت زيارة وفد رفيع المستوى إلى القاهرة برئاسة الوزير لافروف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، زيارة أخرى قام بها مؤخرا وزيرا الدفاع والخارجية المصريان - في أول زيارة رسمية منذ 40 عاما – من أجل إتمام صفقة سلاح تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار ومن المنتظر معرفة ما إذا كان الأمر مجرد صفقة أم تحولا أكبر في توجهات مصر. ولكنها تشير إلى منهج روسيا الاستباقي في إقامة العلاقات، كما حدث مع سوريا وإيران. يأتي الأردن مثالا آخر. على الرغم من أن درجة الشراكة مع المملكة الهاشمية ومصر في عهد عبد الناصر تختلف بدرجة كبيرة (على سبيل المثال، لم يكن هناك 15 ألف خبير عسكري روسي متمركز في الأردن)، إلا أن العلاقات بين عمان وموسكو منفتحة وتشهد صفقات متبادلة منذ منتصف السبعينات، فيما عدا معارضة عمان العلنية لحرب الشيشان في الوقت الحالي، في مواجهة ازدياد احتياجات الطاقة وعدم وجود وسائل فعالة من حيث التكلفة لتلبيتها، أتمت هيئة الطاقة الذرية الأردنية الشهر الماضي عدة جولات من المباحثات تمهد نتائجها الطريق أمام «روساتوم» الروسية لإقامة أول مفاعل نووي في البلاد. قبل عامين، شكلت لجنة حكومية أردنية وروسية عندما كان بوتين في زيارة إلى عمان. وفي إطار سعيها إلى معالجة عجزها التجاري المزمن ورغبتها في زيادة تدفق السياحة، استمر تفاعل الأردن من خلال اللجنة مع نظرائها الروس. تتشارك جميع الدول المذكورة آنفا معا في خوفها المبرر من التهديدات الأمنية للتفسيرات المتطرفة للإسلام والمنظمات الإرهابية السنية. من شمال القوقاز إلى شمال سيناء إلى غرب العراق، تجاهد كل هذه الحكومات لاحتواء الجماعات الجهادية والتخلص منها. تبلي روسيا - التي تستمر مخاوفها المبررة من تصدير مثل هذه الآيديولوجيا إلى سكانها من المسلمين الذين يشكلون قطاعا كبيرا - بلاء حسنا في دعم تلك الحكومات في المنطقة التي تعمل على منع انتشارها أيضا. يتنوع نطاق تعاون روسيا مع دول الشرق الأوسط من اتفاقيات مشروعة (الأردن) إلى مبيعات السلاح إلى الحكومات المصرية، إلى تقديم دعم ثابت متعدد الجوانب إلى أنظمة استبدادية مثل (إيران وسوريا). الأمر المشترك في كل هذه الحالات هو تدخل روسيا الانتهازي عندما تكون هناك مساحة لتوسعة نطاق نفوذها ووقف أهداف السياسات الأميركية في المنطقة، دون أن تضع في اعتبارها معاملة هذه الحكومات لمواطنيها. * اعتبارات السياسات الأميركية لا تبدو نهاية الأزمة الأوكرانية قريبة، وسوف تستمر في اختبار فاعلية الدبلوماسية الغربية. وفي حين يحدو واضعي السياسات الأميركيين الآمال بأن تثبت العقوبات الراهنة المتاحة نجاحها في إجبار روسيا على الالتزام بمطالب الغرب، فإن هناك إجراءات أخرى محل دراسة مثل المساعدة على بناء الجيش الأوكراني. يدخل الاتحاد الأوروبي في مفاوضات جديدة مع الحكومة الأوكرانية المؤقتة للإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة، وتلتزم الحكومة الأميركية بإمداد أوكرانيا بقرض قيمته مليار دولار من أجل مساعدة اقتصاد أوكرانيا المتعثر. يعتقد عدد قليل نسبيا من الخبراء الأميركيين أن بوتين يرتجل في القرم، وأنه يتخذ رد فعل على اتهام حليفه الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، ويستغل فرصة انعدام الاستقرار في البلاد. تقدم تصرفات بوتين الأخيرة في الخارج القريب، بالإضافة إلى نتائج الأزمة في سوريا، قصة لقائد استبدادي لديه استراتيجية كبرى بعيدة الأمد. سوف تلقي تبعات عدم احترام روسيا لسلطة الحكومة في كييف بدرجة ما بآثار سلبية على الشرق الأوسط. وسوف تكون كلمة موسكو أقل مصداقية سواء في المفاوضات من أجل الوصول إلى حل ممكن للحرب الأهلية المأساوية في سوريا أو من أجل التسوية في قدرات إيران النووية. يمثل رفض بوتين سحب قواته من القرم مجرد قمة جبل الجليد. تحد الدولة التي تملك هذا الاستعداد المستمر للاستهانة بالقواعد الأساسية في النظام العالمي من ثقة أصدقائها وأعدائها على حد سواء. ليس معنى ذلك عدم وجود بديل على المدى القريب. تملك سوريا قليلا من الحلفاء الذين يمكنها الاختيار بينهم، إن وجدوا؛ ومن المؤكد أنه لا يوجد من يملك مصالح ومخاطر مثل تلك التي تملكها روسيا. علاوة على ذلك، لن يمنع بوتين الأسد من اتخاذ إجراء مستقل في الداخل أو الخارج. وكذلك، لا تملك إيران أيضا نصيبها من الداعمين على الساحة العالمية وكذلك لن يكون مرجحا أن تغير موقفها في مواجهة الكرملين؛ ولكن ستقل احتمالات اعتماد الغرب على روسيا في أن تكون مُحكّما أو مشاركا في حل المفاوضات. ومع الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، يدعو الخبراء واشنطن إلى التركيز على الدولة التي مزقتها الحرب الأهلية، حتى لا يستفيد الأسد من الاهتمام الأميركي بأوكرانيا ويقوم بتزوير الانتخابات. ربما تحيي الحكومة الأميركية مباحثات السلام السورية من أجل وقف إراقة مزيد من الدماء، إذا تفوق بوتين في القرم وأعاد توجيه أجندته بتحدي نفوذ الغرب في الشرق الأوسط. في إيجاز، أفضل ما يقوم به واضعو السياسة الخارجية الأميركيون هو حماية وتقديم المصالح الأميركية، بأن تشمل سياساتهم إثبات روسيا الاستباقي لذاتها في الجوار والخارج. وكما يشير بعض المحللين، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد نهاية اللعبة وتطوير استراتيجية عملية لتحقيق هذه النهاية، اعترافا منها بأنه أينما وجدت حاجة أو فراغ، في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق، سوف ينتهز الكرملين تحت قيادة بوتين الفرصة ليملؤه. * ريتشارد كرايمر: أستاذ بالجامعة الأميركية، باحث مساعد في مشروع التحولات الديمقراطية في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا. * مايا أوتاراشفيلي: باحثة مساعدة في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومنسقة برنامج مشروع التحولات الديمقراطية (فيلادلفيا).

تنسيق أمني بين دول أوروبا وخطوات للتحرك ضد المقاتلين الأجانب في سوريا تنسيق أمني بين دول أوروبا وخطوات للتحرك ضد المقاتلين الأجانب في سوريا

$
0
0
مشكلة تسفير الشباب للقتال في سوريا أصبحت موضوعا أساسيا في الأجندة الأوروبية وهناك تنسيق مشترك بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمواجهة هذا الأمر، هذا ما قالته فوزية طلحاوي عضو مجلس الشيوخ البلجيكي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» ببروكسل، وأضافت بأن الاجتماعات الأخيرة بين بلجيكا وفرنسا للتنسيق والعمل المشترك هي جزء من تحرك أوروبي تشارك فيه دول أخرى تعاني من مسألة تسفير شبان من المسلمين الأوروبيين إلى سوريا للمشاركة في العمليات القتالية في سوريا، وخاصة أن هناك مخاوف من مرحلة ما بعد عودة هؤلاء إلى أوطانهم الأوروبية وما يمكن أن يشكل ذلك من خطر على المجتمعات الأوروبية. تعقد الدول الأوروبية التسع المعنية أكثر بملف «المقاتلين الأجانب» في سوريا، اجتماعا في الثامن من مايو (أيار) في بروكسل بحضور ممثلين عن الولايات المتحدة وتركيا والمغرب والأردن وتونس، بحسب ما أعلنت وزيرة الداخلية البلجيكية جويل ميلكي. وفي حين اعتمدت فرنسا قبل أيام خطة في محاولة لمنع مجندين للقتال في سوريا من التوجه إلى هذا البلد، فإن بلجيكا التي تبنت إجراءات مماثلة في أبريل (نيسان) 2013. تأمل في تعزيز التعاون بين البلدان الأوروبية وأيضا مع بعض الدول الأخرى في جنوب المتوسط، بحسب ما أوضحت الوزيرة. وقالت الوزيرة البلجيكية بأن «التعامل مع العائدين (من المقاتلين) تشكل أحد أهم مشاغلنا»، مضيفة أن «وجود قاعدة لتنظيم القاعدة على أبواب أوروبا» هو «مشكلة جديدة» طرحها النزاع في سوريا. وأنشأت الوزيرة مع نظيرها الفرنسي في ذلك العهد إيمانويل فالس فريقا غير رسمي يضم وزراء الداخلية في عشر دول أوروبية منها بريطانيا وهولندا وإسبانيا. وقد اجتمع في يونيو (حزيران) أكتوبر (تشرين الأول) 2013 بحضور وزراء الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وسيعقد الاجتماع المقبل للفريق في العاصمة البلجيكية بروكسل في الثامن من مايو بحضور ممثل أميركي إضافة إلى ممثل لتركيا «التي تشكل نقطة عبور باتجاه سوريا» والتي «طلبت» الحضور بحسب الوزيرة البلجيكية. وأضافت أن المغرب الذي لديه الكثير من المقاتلين مع الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا إضافة إلى الأردن وتونس ستشارك في الاجتماع. وأحصت بلجيكا منذ 2012 مشاركة نحو 300 من مواطنيها في القتال في سوريا بينهم خمسون عادوا وعشرون قتلوا، بحسب أرقام وزارة الداخلية. ووصل أعداد الأشخاص الذين سافروا من دول أوروبية إلى سوريا للقتال هناك إلى أرقام قياسية بحسب ما جرى الإعلان عنه في بروكسل، واعتادت السلطات في عدة دول أعضاء بالاتحاد الأوروبي طوال الفترة الماضية على عدم ذكر أرقام دقيقة بشأن أعداد الأشخاص الذين سافروا من تلك الدول إلى سوريا للقتال هناك، وكانت السلطات تكتفي بذكر أرقام تقريبية، ولكن تقارير أمنية أشارت مؤخرا إلى أن هذه الأرقام بلغت معدلات قياسية وتشير تلك التقارير إلى أن عدد المقاتلين الأوروبيين الموجودين في سوريا ممن تم إحصاؤهم ما بين 2011 و2013 بلغ ما بين ألف ومائتين إلى ألفي مقاتل من دول أوروبا الغربية وذلك حسب ما ذكرت صحيفة «لوسوار» البلجيكية، وأشارت إلى أن فرنسا على رأس قائمة الدول، إذ يقدر عدد مواطنيها الذين ذهبوا للمشاركة في القتال في سوريا بنحو 412 شابا، تليها بريطانيا حيث قدر العدد بـ366 شخصا. وتضيف التقارير أن بلجيكا تحتل المرتبة الأولى في عملية «تصدير» المقاتلين إلى سوريا، قياسا لعدد السكان في البلاد، فإن بلجيكا هي الأكثر تأثرا في أوروبا، إذ يقدر عدد من ذهبوا للقتال بـ296 شابا، ويقاتل معظم هؤلاء إلى جانب مجموعات إسلامية متشددة بعضها مقرب من تنظيم القاعدة، ما يعزز مخاوف الأوروبيين بإمكانية أن يشكل «العائدون» من المقاتلين خلايا خطرة على الأمن القومي الأوروبي. وتعد كل من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا من أكثر دول الاتحاد الأوروبي تأثرا بظاهرة سفر الشباب للقتال في سوريا. وتضع بريطانيا التحذير الأمني من وقوع هجوم إرهابي عند درجة كبير حاليا، ما يعني أن الهجوم هو احتمال قوي، على سلم من خمس درجات أدناها منخفض وأعلاها حرج. وتتخوف دول غربية وأوروبية من توجه عدد من مواطنيها للقتال في سوريا، مشيرة أنها ستقوم بمحاسبة من عاد من المقاتلين إليها، بتهمة الانتماء إلى منظمات «متطرفة» محظورة. وتتبادل السلطات والمعارضة الاتهامات حول مسؤولية الأحداث الجارية، وما تلاها من أعمال عنف وفوضى أمنية، فيما تشير منظمات دولية إلى مسؤولية طرفي النزاع عن جرائم حرب خلال الأزمة، لكنها تحمل السلطات المسؤولية الأولى وبدرجة أقل مقاتلي المعارضة، في حين فشل مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى اتفاق على أي قرار يخص الشأن السوري. وفي تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط» كان المسؤول الأول عن ملف مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي جيل دي كيرشوف قال: لا توجد أرقام محددة ولكن يمكن أن أقول لك بأن هناك ما يقرب من 700 شخص وهذا عدد كبير جدا إذا ما قارنا ذلك مع محاولات السفر من قبل إلى أفغانستان والصومال وباكستان واليمن، فلم يتم رصد مثل هذا العدد الكبير من قبل، وهذا الأمر يمثل تحديا كبيرا ويطرح السؤال المهم، وهو، كيف يمكن تجنب سفر المزيد من هؤلاء الشباب إلى سوريا للقتال؟ وهذا السؤال هو ما نعمل عليه حاليا، وللإجابة عليه لا بد من العمل في اتجاهات متعددة ومنها التعاون والعمل مع الأقليات والمجتمعات المتعددة لإظهار الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها مساعدة السوريين منها مثلا طرق داخل أوروبا وأخرى خارجها مثل تقديم الدعم والمساعدات لمعسكرات اللاجئين ويمكن تقديم الكثير في هذا المجال ونحن نرحب بذلك، ويجب توضيح أن الطريقة المثلى للمساعدة ليست بالذهاب للقتال هناك، وأنه لا داعي للذهاب من أجل ذلك والعمل على مواقع التواصل الاجتماعي لمنع محاولات تسفير المزيد منهم وكذلك مراقبة محاولات السفر المشبوهة. ويضيف دي كيرشوف لـ«الشرق الأوسط»: ارتفاع عدد الشباب الأوروبي الذي سافر إلى سوريا للمشاركة في القتال بسوريا كان محل نقاش في عدة اجتماعات لوزراء الداخلية والعدل في دول الاتحاد الأوروبي، وجرى بحث التداعيات والمشاكل المترتبة على سفر هؤلاء الذين يذهب البعض منهم للجهاد والبعض الآخر لتقديم مساعدات للجيش السوري الحر وآخرين للالتحاق بجماعة النصرة وغيرها، وهذا أمر مثير للقلق، لأنه بالتالي يتم استقطابهم للآيديولوجية التي تتبعها «القاعدة» والفكر الراديكالي، وسيتعلمون صناعة القنابل والمتفجرات والطرق القتالية المختلفة وبعد عودتهم سيشكلون حالة عدم استقرار، ولهذا جرى خلال الاجتماع الوزاري الأخير، بحث بعض الإجراءات التي تتعلق بتجنب سفر المزيد، وتجريم الخطوات المرتبطة بهذا الأمر، وكذلك تكثيف التعاون مع دول المنطقة القريبة من سوريا. ويضيف كيرشوف: «بالنسبة للإعلام الاجتماعي أو وسائل التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، فهي تلعب دورا كبيرا في هذا الملف والجميع يعلم الدور الذي يلعبه الإنترنت في هذا الأمر، فقد يساعد على نشر التطرف وقد يشكل طريقة للاستقطاب وتجنيد الشباب، وتحقيق التواصل معهم، وأيضا وسيلة لإرسال أموال لتمويل هذه الأمور، ولقد سبق أن قمنا بعدة مشروعات لمواجهة هذه الأمور، ونتحرك في ثلاثة اتجاهات، أولا المراقبة، وقد كلفنا مكتب الشرطة الأوروبية «يوروبول» بإمدادنا بالمعلومات في إطار مشروع يحمل اسم «راقب الموقع»، وتقوم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمراقبة مواقع مختلفة ويتم تبادل المعلومات حول هذا الأمر، وثانيا نقوم بإزالة بعض المواقع على شبكات التواصل الاجتماعي وهي التي تعمل بشكل غير مشروع، وأيضا أي موقع يحرض على القتل والإرهاب لأنه أمر غير مقبول، ولهذا الغرض أيضا نعمل مع القطاع الخاص الناشط في مجال إنشاء المواقع ودعمها وبالتالي يمكن حذف تلك المواقع إذا ثبت أنها تعمل بشكل غير شرعي أو تشكل خطرا وثالثا نقوم بمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي ذات الصلة بتنظيم القاعدة وتقوم بتوصيل رسائل يريد التنظيم توصيلها ونعمل على تسهيل توصيل ما يمكن تسميته الرسائل المضادة، وهذا الأمر لا تستطيع الحكومات أن تقوم به بمفردها لعدم توفر الإمكانيات المطلوبة للتعامل مع هذا الأمر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع هو كيف يمكن للذين لا يتفقون في الرأي مع «القاعدة» أو لديهم رسالة مخالفة لها بالرد على رسائل «القاعدة» من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي سواء كان هؤلاء داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه، إذن الوسائل لدينا كثيرة وعبر وسائل التواصل والإعلام الاجتماعي للرد على الرسائل التي توجهها «القاعدة». وكشفت وزارة الداخلية الفرنسية نحو 20 إجراء، بينها خطة لمنع القصر من مغادرة فرنسا من دون موافقة الوالدين، وتشديد الرقابة على المواقع الإسلامية التي تجند مقاتلين، بالإضافة إلى نظام لتشجيع الوالدين على الإبلاغ عن أي سلوك مثير للريبة من أبنائهم. وقال الرئيس فرنسوا هولاند للصحافيين الأسبوع الماضي «ستتخذ فرنسا كل الإجراءات لإثناء ومنع ومعاقبة كل من يجذبون للقتال في مكان لا يكون لديهم سبب لفعل ذلك فيه». ويقاتل مسلمون سنة متشددون من خارج سوريا إلى جانب مقاتلي المعارضة، وهو ما يثير بواعث قلق الدول الغربية من أخطار أمنية في الداخل. وأقرت بريطانيا العام 2013 قانونا يسهل مصادرة جواز سفر أي شخص تعد أنشطته «الفعلية أو المشتبه بها» تتنافى مع المصلحة العامة. وتقدر فرنسا أعداد مواطنيها الضالعين بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب السورية بنحو 700 شخص. وفي مطلع الأسبوع الماضي، قال أربعة صحافيين فرنسيين، عادوا من سوريا بعد أن ظلوا رهن الاحتجاز لدى جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام منذ يونيو، إن بعض الخاطفين كانوا يتحدثون الفرنسية. وقال المصدر الحكومي «ستكون هذه خطة شاملة للتصدي لظاهرة تشهد تطورا كبيرا». وأضاف: «تتمثل الفكرة في التعامل مع المشكلة من اللحظة التي يشاهد فيها شخص فيديوهات جهادية في غرفته إلى اللحظة التي يستقل فيها الحافلة، إلى الحدود التركية - السورية». وكان سبعة أشخاص قتلوا عام 2012 بأيدي مواطن فرنسي يدعى محمد مراح يستلهم نهج تنظيم القاعدة وكانت صحيفة «نيزافيسيمايا غارزيتا» الروسية قد قالت: إن «الحرب الأهلية في سوريا يبدو أنها تحتاج إلى ضحايا جدد، حيث يستخدم الجهاديون شبكات التواصل الاجتماعي لتجنيد مقاتلين من مسلمي بريطانيا». وأشارت الصحيفة إلى أن «موجة جديدة لتجنيد المقاتلين بدأت على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يوجد نحو 11 ألف مقاتل أجنبي في صفوف (الدولة الإسلامية في العراق والشام) و(جبهة النصرة) منهم ألف و900 من أوروبا و366 بريطانيا، و269 بلجيكيا، و412 فرنسيا، و249 ألمانيا، وغيرها من الدول الاسكندنافية». ويشير الباحثون البريطانيون إلى أن الأزمة السورية أصبحت أول ساحة قتال في التاريخ يجند لها المقاتلون عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وكانت شرطة اسكوتلنديارد تلقت في الرابع عشر من الشهر الحالي معلومات تفيد بأن أحد سكان برايتون وعمره 18 عاما قتل مؤخرا في سوريا. وكانت تقارير استخبارية كشفت عن وجود أكثر من 200 إرهابي بريطاني يقاتلون إلى جانب المجموعات المسلحة في سوريا. وقالت متحدثة باسم شرطة ساسيكس لـ«الشرق الأوسط» إن ظروف مقتل عبد الله الدغايس، 18 عاما، لم تتضح بعد ولم يعرف أيضا التاريخ لكن المحققين يقولون: إنه قتل في أبريل، فيما قال والده أبو بكر وهو من أصل ليبي لـ«الشرق الأوسط» بأن لديه ولدين آخرين يقاتلان في صفوف الكتائب المعارضة لنظام الأسد، بينما قالت متحدثة باسم وزارة الخارجية البريطانية «علمنا بوفاة مواطن بريطاني ونحن نجري تحقيقا حول الحالة» يشار إلى أن عبد الله دغايس هو ابن شقيق عمر دغايس الذي اعتقلته الولايات المتحدة في سجن غوانتانامو بين العامين 2002 و2007 بعد القبض عليه في باكستان بتهم إرهابية. وكثفت السلطات البريطانية في الأشهر الأخيرة اعتقال أشخاص سافروا إلى سوريا للقتال إلى جانب المجموعات المسلحة وتقدر بريطانيا عدد هؤلاء المسلحين بأكثر من 400 بينهم عشرون قتلوا. من جهة أخرى, حذر مسؤولون كبار في اسكوتلنديارد وأجهزة الاستخبارات من الخطر الذي يشكله هؤلاء البريطانيون الذين عادوا إلى البلاد بعدما اكتسبوا خبرة من مقاتلي «القاعدة» في حرب العصابات أو ممارسة الإرهاب. وشكل موضوع تزايد عدد الغربيين الذين يتوجهون إلى سوريا للانضمام إلى المجموعات المسلحة محور اهتمام الدول الغربية خلال الفترة الأخيرة حيث عقدت لهذه الغاية عدة اجتماعات على مستوى عال لمناقشة هذا الموضوع كان آخرها الاجتماع الذي عقد في بولندا مؤخرا وشارك فيه وزراء داخلية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبولندا. وتشكل سوريا قاعدة مغرية لهؤلاء المقاتلين لأنها تقدم لها ملجأ آمنا نسبيا بالنسبة للملاذات التي يملكها المتطرفون - بعيدا عن الطائرات من دون طيار في أفغانستان وباكستان - إضافة إلى الوصول بشكل سريع إلى نحو 1200 مسلم أميركي وأوروبي ذهبوا إلى هناك للقتال ويشكلون جنودا محتملين لتنفيذ هجمات لدى عودتهم إلى بلادهم. وقد عبر مسؤولو مكافحة الإرهاب عن مخاوفهم في الأشهر الأخيرة من أن هؤلاء المقاتلين الغربيين يمكن دفعهم إلى التطرف عبر هذه الحرب الأهلية. وقد خلصت تقديرات استخباراتية سرية جديدة، اعتمدت على معلومات جرى الحصول عليها عبر التنصت الإلكتروني والعملاء والمشاركات في وسائل الإعلام الاجتماعية، إلى أن القيادة العليا لتنظيم القاعدة في باكستان؛ وعلى رأسهم أيمن الظواهري، وضعوا خطة أكثر منهجية طويلة المدى عما اشتهر عنها في السابق من تكوين خلايا محدودة في سوريا من شأنها تجنيد وتدريب هؤلاء الغربيين. وتحركت بالفعل عدة أوروبية في هذا الاتجاه ومنها بلجيكا على سبيل المثال، وتقول البرلمانية البلجيكية فوزية طلحاوي، أن السلطات البلجيكية تحركت في عدة اتجاهات لمواجهة هذا الأمر كما تحركت الدول الأوروبية الأخرى بغرض تنسيق المواقف للتعامل مع هذا الملف، وفي أبريل من العام الماضي قالت وزيرة الداخلية البلجيكية بأن السلطات في بلادها قد بدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات وخطوات ترمي إلى منع سفر الشبان الراغبين في الذهاب للقتال في سوريا، وأشارت إلى أن مزيدا من إجراءات التفتيش والتدقيق على سفر الشبان صغار السن إلى دول جوار سوريا قد بدأت بالفعل، وسيكون هناك شروط أكثر صرامة وأيضا سيتم إعادة النظر في الأمر لفرض عقوبة على السفر إلى دول الجوار بغرض القتال في سوريا. وكان مجلس الوزراء البلجيكي المصغر «الذي يضم الوزارات المعنية» قد اجتمع قبلها بأيام وجرى الإعلان عقب الاجتماع، أن حزمة القوانين والتشريعات المختصة بمحاربة الإرهاب والنافذة حاليا «كافية» لمواجهة التطرف العنيف وكذلك ظاهرة ذهاب الشباب البلجيكي للقتال في سوريا وخلال الاجتماع تم عرض مخطط لمكافحة التطرف قدمته وزيرة الداخلية جويليه ميلكيه، حيث تمت الإشارة إلى ضرورة التركيز على «التوعية ووقاية الشباب من خطر الوقوع في براثن شبكات متطرفة تسعى لتجنيدهم وإرسالهم للقتال» سواء في سوريا أو في مكان آخر، وأوضح بيان صادر عن المجلس الوزاري المصغر أن التشريعات النافذة في بلجيكا في مجال محاربة الإرهاب والتي تمت تقويتها، مؤخرا، تسمح باتخاذ إجراءات وتدابير «حازمة» لمحاربة كافة أشكال التطرف ويتضمن المخطط ست نقاط تتمحور حول العمل على مختلف المستويات المحلية والفيدرالية من أجل محاربة كافة أشكال التطرف العنيف ومحاولات تجنيد الشباب لزجهم في صراعات خارجية، حيث «يتضمن المخطط إجراءات لتشديد الرقابة في المطارات والموانئ على حركة الشبان المسافرين للخارج»، حسب بيان المجلس. وأجمع الوزراء المشاركون في الاجتماع على أهمية رفع مستوى التعاون وتبادل المعلومات مع تركيا بوصفها الدولة التي يتوجه لها الشباب قبل دخولهم الأراضي السورية: «لا بد من تكثيف العمل مع تركيا بشكل أساسي وكذلك مع الدول المجاورة لتسهيل عملية تعقب هؤلاء»، كما رفض المجلس اقتراحا سابقا يقضي بسحب بطاقات هوية الشباب الذين «يشتبه بنيتهم التوجه إلى سوريا»، عادا أن في الأمر تقييدا للحرية الفردية، وتنص التشريعات النافذة في البلاد على تجريم كل شخص ينشر أفكارا متطرفة أو يدعو لأعمال عنيفة أو يشارك في تجنيد أو تدريب آخرين للقيام بأعمال عنف داخل بلجيكا أو خارجها ويقول ربيع شعار مسؤول الجمعية البلجيكية لدعم الثورة السورية، بأننا لسنا بحاجة إلى رجال للقتال في البلاد ولكننا نحتاج إلى مساعدات أخرى فبدلا من سفر هؤلاء للقتال في سوريا يمكن لهم أن يقدموا الدعم للثورة من خلال الوقوف معنا في مظاهرات تطالب بموقف دولي قوي لمساعدة السوريين ويشاركون معنا على شبكات التواصل الاجتماعي في ممارسة كل الضغوط على الحكومات لتقديم الدعم المطلوب للسوريين من مساعدات إنسانية وأسلحة لمواجهة النظام وأضاف الشعار في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أنه كتب على شبكات التواصل الاجتماعي يطالب الأحرار في سوريا بمساعدة هؤلاء الذين سافروا من بلجيكا والدول الأخرى على العودة عبر الأراضي التركية إلى ذويهم، لأن هناك ما يكفي من الرجال في سوريا للقتال ولكن للأسف لا يوجد سلاح كاف ويتناوب أربعة أشخاص على حمل نفس السلاح. ويأتي ذلك بعد أن قال عضو البرلمان البلجيكي دونيس دوكيرم في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» بأن بلاده أصبحت مركزا حيويا لتجنيد الشبان وتسفيرهم إلى سوريا للقتال هناك وهناك مجموعات راديكالية تقوم بتجنيدهم، وهذا يمثل مشكلة كبيرة سواء بالنسبة لعائلات هؤلاء الشبان أو بالنسبة للحالة الأمنية أو على الصعيد الاجتماعي، حيث يتدرب هؤلاء هناك على القتال وينضمون لجماعات متشددة ويتعلمون كيفية استخدام أسلحة متنوعة وهذا كله يمكن أن يشكل خطرا على أمن بلجيكا بعد عودتهم، وأشار البرلماني الليبرالي إلى أن الأمر لا يقتصر على بلجيكا فحسب فهناك شبان يتم تجنيدهم وتسفيرهم إلى سوريا يحملون جنسيات أخرى من ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرهم. وفي دراسة نشرها المركز الدولي لدراسات الراديكالية التابع لـ«كينغز كولج» في لندن مطلع العام الجاري جاء مفادها أن أكثر من 11 ألف مقاتل غير سوري يقاتلون على الأراضي السورية، بينهم مقاتلون أوروبيون وعرب. وكما أشارت الإحصاءات أعلاه فإن المخاوف الأوروبية كانت من ازدياد أعداد المقاتلين الأوروبيين المشاركين في الحرب القائمة في سوريا حاليا، إضافة إلى مخاوف من عودة أولئك المقاتلين ومشاركتهم في عمليات انتحارية في أوروبا أو في أي بقعة من بقع العالم. المخاوف التي أطلقها المجتمع الغربي جاءت بلغة التشديد بعد أن أعلنت السعودية بأمر ملكي عن معاقبة كل من يذهب للقتال والمشاركة في مناطق الصراع في العالم، وذلك بعد تنامي أعداد العرب الهاربين إلى سوريا للانضمام إلى تنظيمات إرهابية مثل جبهة النصرة أو الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» وغيرها، وكان الأمر الملكي السعودي قد منح المقاتلين السعوديين هناك مهلة شهر يسلمون فيها أنفسهم قبل أن تنفذ العقوبات بحقهم في حال عودتهم، وبعد الأمر الملكي أعلن أكثر من 7 أشخاص عودتهم، 4 منهم ظهروا في لقاءات تلفزيونية يبينون طريقة استغلال التنظيمات الإرهابية في سوريا لهم. فرنسا استشهدت بموقع السعودية وإجراءاتها ضد مواطنيها الهاربين إلى سوريا للقتال، وجاء ذلك في تصريحات للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حين أعلن حزمة عقوبات تدرسها باريس لمعاقبة مواطنيها الموجودين على الأراضي السورية للقتال. التحرك السعودي مثلا، جاء بعد تزايد خطورة الوضع في سوريا وتأثيراته المستقبلية على الأمن الإقليمي والعالمي، فحسب إحصاءات شبه رسمية نشرها مركز دراسات الراديكالية المشار إليه أعلاه فإن ما يزيد على 6774 عربيا يقاتلون مع الجماعات المسلحة في سوريا أكثر من 1300 منهم من دول الخليج العربي، بينهم – حسب الدراسة – 1016 سعوديا فيما جاءت سلطنة عمان كأقل دولة خرج منها مقاتل إلى سوريا بمعدل مقاتل واحد فقط. المخاوف الخليجية والعالمية جاءت كإجراءات احترازية منعا لوقوع هجمات انتحارية من المقاتلين الموجودين على الأراضي السورية، وحتى لا ينتشر سرطان الإرهاب في المنطقة مجددا، بعد أن أنفقت دول العالم مليارات الدولارات لمحاربته، ليعود مرة أخرى، بفكر أكثر تطرفا، وبعناصر من جميع الجنسيات، لا يتنبأ بها أحد.

رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى» رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى»

$
0
0
على عكس الصورة التي يحاول النظام الإيراني أن يقدمها حول نفسه ومواقفه، لا يتعدى شعار «مرك بار أميركا»، أي الموت لأميركا، كونه كلاما لفظيا، بينما في الواقع تبتعد طهران عن العقائدية وتتبع سياسة عملانية تهدف إلى مصادقة واشنطن والتحالف معها، حتى تنال إيران اعترافا أميركيا بهيمنتها في منطقة الشرق الأوسط، وتفويضا لإدارة هذه المنطقة، خصوصا في وقت يسود فيه شعور أميركي شعبي بالإرهاق من السياسة الخارجية. ولأن طهران ليست عقائدية، بل واقعية، فقد عملت منذ منتصف التسعينات على تشكيل مجموعة ضغط، متعارف على تسميتها «لوبي»، داخل العاصمة الأميركية، وبتمويل من طهران وإشراف مباشر من البعثة الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، نجحت إيران في خلق هذا اللوبي الذي راح مسؤولوه، يتصدرهم إيراني - سويدي على المذهب الزرادشتي يقيم في واشنطن، يتباهون بتحقيقهم النتائج، وبإلحاقهم هزائم بأعتى اللوبيات الأميركية، وعلى رأسها ذاك المؤيد لإسرائيل. في مكتبي بواشنطن، وصلت إليّ دعوة من «مركز وودرو ويلسون» المرموق لحضور ندوة بعنوان «إيران في السنوات الخمس المقبلة: تغيير أم المزيد من الشيء نفسه؟».. الموضوع الإيراني ساخن، وندوات من هذا النوع غالبا ما تستقطب حشدا من المعنيين من مسؤولين أميركيين وخبراء وإعلاميين. فتحت الدعوة، فإذا بي أعرف واحدة من المتحدثين، وهي صحافية أميركية تكتب عن الشرق الأوسط بشيء من الموضوعية. أما المتحدثون الآخرون، فلم يكونوا من الأميركيين، مما دفعني إلى التحري عنهم. واحد إيراني، ويدعى بيجان خاجيهبور، ويدير شركة استشارات، يفترض أن مقرها النمسا، لكنني أقرأ اسمه منذ فترة كمحاضر في الندوات المخصصة لإيران هنا في العاصمة الأميركية. ثم ببحث سريع، وجدت أن شركة الاستشارات المزعومة، «آتية إنترناشونال»، تابعة لـ«مجموعة آتية» في طهران، التي تقدم نفسها، على موقعها على الإنترنت، كمؤسسة متخصصة في تقديم «المساعدة والنصح للشركات الأجنبية للدخول والعمل بنجاح في السوق الإيرانية». المتحدث الثاني باحث فرنسي اسمه بيرنارد هوركارد، أفضى بحثي عنه إلى مقابلة أجرتها معه قناة «يورونيوز» في أبريل (نيسان) الماضي، وقال فيها: «منذ 34 عاما، ونحن نقول كل يوم إن الجمهورية الإسلامية قاربت أن تنهار، ولكنها ما زالت موجودة، وهي أكثر نظام حكومة مستقر في الشرق الأوسط، ونحن نرى ذلك، خصوصا بعد الربيع العربي، وهي الدولة التي يمكن أن تتقدم إلى الأمام». ثم يدعو هوركارد إلى السماح لإيران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم، والتوصل إلى اتفاق معها يفضي إلى رفع العقوبات عنها، وتطبيع العلاقات مع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة. المتحدث الثالث، روبرتو توسكانو، إيطالي وسبق أن عمل سفيرا لبلاده لدى إيران بين الأعوام 2003 و2008. في مقالة له في «هفنغتون بوست»، قلل توسكانو من هتاف الإيرانيين «الموت لأميركا»، وكتب أنه من الأفضل للسياسات الأميركية، ألا تلتفت إلى خطاب النظام المعادي للولايات المتحدة، وأن تمضي قدما في الانفتاح عليه، وإلا فإن البديل الوحيد هو الحرب، وعند ذاك، يتوحد الإيرانيون خلف قيادتهم، وتصبح هتافاتهم بالموت لأميركا ذات معنى. وختم توسكانو أنه عندما «يقول الإيرانيون الأميركيون (خصوصا المجلس القومي الإيراني الأميركي): لا تضربوا إيران. هم لا يقولون ذلك، لأنهم متساهلون مع النظام، بل لأنهم يعرفون أن أي هجوم سينعش النظام شعبيا، لذا اسمحوا لي بأن أؤكد أن صورة الإيرانيين ككارهين لأميركا هي صورة خاطئة». أما مديرة الندوة، حسبما ورد في الدعوة، فهي الإيرانية - الأميركية هالة اصفندياري، وهي مديرة برنامج الشرق الأوسط في المعهد، وكان النظام اعتقلها في عام 2007 لمدة أربعة أشهر في السجن الانفرادي في إيفين، ثم أفرج عنها، ومنذ ذلك اليوم واصفندياري تصر على ضرورة انفتاح أميركا على إيران، وعلى رفع العقوبات عن طهران، والسماح لها بالمضي قدما ببرنامجه النووي. ولهذا السبب، تقيم اصفندياري ندوات في المعهد الذي تديره، وتوقع على عرائض لرفع العقوبات. * التغيير المقبل * إذن، حتى من دون ذهابي إلى الندوة حول إيران، كان يمكنني أن أتكهن مسبقا بمجرياتها؛ مجموعة من الإيرانيين، بعضهم ممن اكتسبوا الجنسية الأميركية أو الأوروبية، وأوروبيون مؤيدون للانفتاح غير المشروط على إيران، يتكلمون على مدى ساعتين حول التغيير المقبل مع انتخاب حسن روحاني رئيسا لإيران والفرصة السانحة لاقتناصها، والعوائد المالية للانفتاح على طهران، ويحذرون من مغبة عرقلة أميركا التوصل إلى اتفاق، حتى لو تعنتت إيران وتمسكت بشروطها النووية، بحجة أنه لا اتفاق يعني حتما الحرب، وهي كلمة لا يستسيغها الأميركيون بعد حربي العراق وأفغانستان. ويبدو أن توسكانو، الذي يأخذ على عاتقه تجميل صورة إيران، والتحذير من الحرب، والتمجيد بالمجلس القومي الإيراني - الأميركي، نشر مقالته بدعم من المجلس نفسه، الذي يترأسه الإيراني - السويدي المقيم في واشنطن تريتا بارسي، الذي يكتب دوريا في هذا الموقع. وبارسي صديق وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف منذ أكثر من عقد، عندما كان الأخير يعمل مبعوثا دائما لبلاده في الأمم المتحدة بنيويورك. وفي منتصف العقد الماضي، اتهم الإيراني المعارض حسن داعي الإسلام بارسي بالعمل لمصلحة النظام، فما كان من بارسي إلا أن أقام دعوى قدح وذم بحق داعي الإسلام، فأمرت المحكمة بفتح البريد الإلكتروني لبارسي، ليتبين أنه كان على اتصال بظريف، وأنه قام بتنسيق لقاءات بين أعضاء في الكونغرس من الحزبين مع المسؤول الإيراني. * إثباتات المحاكم الأميركية * الرسائل الإلكترونية التي جرى الكشف عنها أظهرت أن ظريف وبارسي التقيا للمرة الأولى في مارس (آذار) 2006، وأن ظريف مرر إلى بارسي وثيقة «المساومة الكبرى» التي اقترحها الإيرانيون على الأميركيين إبان حرب العراق في عام 2003، ورفضتها واشنطن. وتظهر وثائق المحكمة أن طهران قدمت الوثيقة للسفير السويسري لدى إيران، الذي يمثل المصالح الأميركية، والذي مررها إلى الأميركيين. وفي وقت لاحق، ادعى الأميركي فلينت ليفيريت أنه وزوجته تسلما الوثيقة من الإيرانيين أيضا ومرراها إلى الإدارة الأميركية. وليفيريت مؤلف كتاب حول حياة الرئيس السوري بشار الأسد، ويتمتع بعلاقة جيدة بدمشق وطهران، ويقول في مقابلة مع الكاتب لي سميث، إنه من الأميركيين القلائل الذين يزورون طهران دوريا ومن دون فيزا. ويعتقد سميث أن ليفيريت يعتقد أنه في حال التوصل إلى اتفاق أميركي - إيراني، فإنه سيكون من أول المستفيدين ماليا من العقود المقبلة إلى حد أطلق سميث على ليفيريت لقب «رجل إيران في واشنطن». وفي رسائل بارسي الإلكترونية التي كشفتها المحكمة تنسيق بينه وبين ظريف حول مؤتمر في الكونغرس بالتعاون مع مؤسسة «أميركا الجديدة»، كجزء من مشروع أطلقه بارسي في عام 2006، بعنوان «مشروع التفاوض مع إيران». ويرفق بارسي رسالته الإلكترونية إلى البعثة الإيرانية بتقدير تكاليف ستة أشهر من العمل لهذا المشروع، الذي يتضمن دعوة عشرة إلى 15 خبيرا في الشأن الإيراني من حول العالم، بتكلفة تبلغ مائة ألف دولار. وفي سبتمبر (أيلول) 2012، حكمت المحكمة ضد بارسي، وغرمته مبلغ 185 ألف جولار كتعويضات لداعي الإسلام. والبعثة الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك لا تشرف على «اللوبي الإيراني» في واشنطن فحسب، بل كانت تشرف كذلك على عمل ما يعرف بـ«مؤسسة علوي»، حسبما نقلت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» عن محققين فيدراليين أميركيين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009. و«مؤسسة علوي» أنشأها شاه إيران في عام 1973 تحت اسم «مؤسسة بهلوي»، وفي عام 1979، تحول اسمها إلى مؤسسة المستضعفين، وفي وقت لاحق أصبحت معروفة بـ«مؤسسة علوي». وفي فبراير (شباط) من عام 2012، رفعت شرطة نيويورك السرية عن وثائق لها تعود إلى مايو (أيار) 2006، وفيها أن «أجهزة الاستخبارات الإيرانية تعمل داخل الولايات المتحدة عبر مؤسسات متعددة، منها (مؤسسة علوي)»، وهي تهمة نفتها المؤسسة التي تكرر على موقعها أن مهمتها الأساسية هي «شرح الثقافة الإسلامية، واللغة الفارسية والأدب والحضارة». وفي صفحات أخرى على موقعها، ترى المؤسسة أن هدفها دعم «الثقافة الشيعية». وتملك المؤسسة ناطحة سحاب في قلب مدينة نيويورك تعود عليها بإيجارات ضخمة تستخدمها في تمويل أكثر من 30 مؤسسة تعليمية في عموم الولايات المتحدة. ويعتقد خبراء أن طهران تستخدم هذه الأموال لتكافئ الأكاديميين الذين يكتبون ما يرضيها، والمؤسسات التربوية التي تصدر دراسات تخدم مصلحة طهران. إلا أنه على الرغم من نفي «مؤسسة علوي» أي ارتباط مع طهران، كشفت «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي) أن رئيس المؤسسة فرشيد جاهدي قام في عام 2008 بإتلاف وثائق تثبت أن المؤسسة سددت جزءا من أموالها لبنك ملي في طهران، والمملوك من الحكومة الإيرانية، وأن جزءا من الأموال قد يكون جرى استخدامه في تمويل البرنامج النووي الإيراني. وفي أبريل 2010، حكمت محكمة فيدرالية في نيويورك على جاهدي بالسجن ثلاثة شهور بتهمتي عرقلة التحقيقات وإعاقة العدالة، وجرى التحفظ على جزء كبير من أموال وممتلكات المؤسسة، التي ما زالت تعمل، وإنما بحذر. * نشاطات اللوبي الإيراني * في ديسمبر (كانون الأول)، وقبل أيام من انعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، عقد خبراء ومسؤولون عرب وأجانب حوارا سنويا في المنامة توّجه وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل بحضور جدد أثناءه تعهد بلاده بأمن الخليج في وجه أي تهديد إيراني، لكن تعهدات الوزير الأميركي لم تكن بريئة، بل جاءت بمثابة تطمينات في وقت كانت فيه حكومة بلاده تتفاوض مع إيران، سرا وعلنا. ومع هيغل، حضر عدد من مستشاريه، الحاليين والسابقين، من أمثال أندرو بارازيليتي، وهو مدير موقع «آل مونيتور»، حيث تعمل الباحثة في «مجلس الأطلسي» باربرا سلافين، التي تزور إيران بانتظام، وغالبا ما تنظم ندوات، على غرار اصفندياري، تستضيف فيها وجوه لوبي طهران في واشنطن، بمن فيهم بارسي وخاجيهبور، وتؤلف بالاشتراك معهم دراسات تزعم أن العقوبات على طهران تؤذي الإيرانيين فقط من دون حكومتهم، مما يوجب حكما رفعها. وسلافين تكتب علنا أن على واشنطن البحث عن مصالحها الفعلية، وأن ذلك يكون عبر الاستبدال بتحالفها مع الرياض تحالفا مع طهران، فيما كتب بارازيليتي أن على أميركا تكليف إيران حل الأزمة من سوريا، من دون شروط. والموقع يموله الأميركي من أصل سوري جمال دانييل، الذي جمع ثروة من عمله في قطاع النفط، والذي يعتقد كثيرون أنه يأمل بأن تكافئه إيران بعقود نفطية في حال جرى رفع العقوبات عنها. في المنامة، حيث حضر بارازيليتي، اندلعت أزمة كادت تطيح بالقمة الخليجية، عندما قام أحد الصحافيين بطرح سؤال على وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي حول إمكانية قيام اتحاد خليجي، ليرد الأخير أن الاحتمال غير وارد، وأن عمان ستنسحب من المجلس في حال جرى التصويت عليه في قمة الكويت. هنا سارعت الدبلوماسية الكويتية لإنقاذ القمة التي كانت في طريقها لاستضافتها، في حين تبين في وقت لاحق أن السؤال والإجابة حصلا بتنسيق كان يهدف إلى إحراج المملكة العربية السعودية. وفي واشنطن، استمرت نشاطات اللوبي الإيراني المتنوعة، التي تدعو جميعها لإسقاط العقوبات بشكل غير مشروط عن إيران وبالتحالف معها، حتى لو اقتضى ذلك التنازل لها في سوريا ولبنان والعراق وعموم المنطقة. ونشاطات اللوبي الإيراني تتضمن ندوات، وإصدار دراسات، وعقد مؤتمرات، ونشر مقالات في صحف أميركية متنوعة، وإقامة صداقات مع باحثين وخبراء أميركيين، كذلك مع مسؤولين في الحكومة وفي الكونغرس، ومع مساعديهم. وفي الوقت الذي حاول فيه اللوبي الموالي لإسرائيل، والمعروف بـ«أيباك»، حض مؤيديه في الكونغرس على تمرير قانون يفرض عقوبات جديدة على إيران بمفعول متأخر، أي بعد سنة على الإقرار، وفي حال فشل المفاوضات الدولية مع إيران، التي أنتجت اتفاقية مؤقتة في نوفمبر الماضي في جنيف، وضع اللوبي الإيراني خطة محكمة للتصدي لمجهود العقوبات الجديدة. ولوبي إسرائيل لديه سيطرة شبه مطلقة في مجلس الممثلين في الكونغرس، الذي تسيطر عليه غالبية من الحزب الجمهوري، والذي أقر نسخة من قانون العقوبات المطلوب على إيران. لكن مجلس الشيوخ يسيطر عليه الحزب الديمقراطي، الذي على الرغم من الصداقة التي تجمعه بلوبي إسرائيل، من غير الممكن له أن يعارض قرارات رئيس البلاد الذي ينتمي إلى الحزب نفسه. هكذا، جمع اللوبي الإسرائيلي 59 صوتا من أصل 60 مطلوبة لفرض الإقرار على زعيم الغالبية في المجلس هاري ريد، وعلى أوباما نفسه. وبغياب الصوت الوحيد المطلوب، تعثر مجهود فرض أي عقوبات جديدة على إيران في حال انهارت المفاوضات الدولية النووية معها، أو لم تتوصل إلى نتيجة. لكن اللوبي الإيراني لم يقف متفرجا على أوباما، الذي كان في خضم مواجهة تشريعية مع أصدقاء إسرائيل، بل راح الإيرانيون يحشدون شعبيا لتأييد الرئيس ضد عقوبات جديدة. وفي خضم نشاطهم، عثر الإيرانيون على حلفاء نجحوا في تجنيدهم لتأييد المفاوضات مع إيران، أي مفاوضات، وبغض النظر عن نتيجتها. أما هؤلاء الحلفاء، وهم قوة سياسية شرسة لا يستهان بها، فهم مجموعات مناهضة للحرب في العراق وأفغانستان. طبعا لا تؤدي دفعة جديدة من العقوبات على إيران إلى الذهاب إلى حرب معها حكما، لكن الإيرانيين نجحوا في تسويق هذه الفكرة، التي راح يرددها مسؤولو البيت الأبيض وحلفاؤهم في الكونغرس. كذلك تبنى فكرة «مفاوضات أو حرب» التحالف المناهض للحرب، وهو ما شد من عضد أوباما وقدم له دعما شعبيا في مواجهة غالبية الكونغرس في موضوع إيران. * تراجع اللوبي الإسرائيلي * «لغالبية الأميركيين هموم واهتمامات تمنعهم من متابعة السياسة الخارجية وتفاصيلها، مما يعطي مجموعة صغيرة، لكنها مثابرة المقدرة على الهيمنة في هذه المواضيع»، يكتب بارسي فيما يبدو أنه تصوره لكيفية عمل اللوبيات في العاصمة الأميركية. مقالة بارسي صدرت على موقع «هفنغتون بوست» بعنوان «وهم أن أيباك لا تقهر»، على أثر تراجع اللوبي الإسرائيلي عن محاولة تمرير عقوبات جديدة على إيران. ويضيف بارسي، أن «أيباك» واجهت مجموعة من الهزائم، كان أولها بعدما تبنت توجيه أميركا ضربة عسكرية إلى سوريا في أعقاب الهجوم الكيماوي الذي شنته قوات بشار الأسد ضد مدنيين في ضواحي دمشق في أغسطس (آب) . أما الهزيمة الثانية فجاءت في المواجهة حول إيران. في المواجهتين، يعتقد بارسي أن المزاج المعارض للحرب هو الذي أثبت فاعليته، وأن في المرة الثانية، استند البيت الأبيض لهذا المزاج، الذي ينشط فيه بشدة بارسي واللوبي الإيراني، لإحباط «أيباك» وأي عقوبات جديدة على إيران. إلا أن المواجهة لم تنته، حسب بارسي، الذي يؤكد أن الجولة المقبلة بين طرفين حدد واحد منهما على أنه اللوبي الإسرائيلي ولم يحدد الآخر، آتية في غضون أشهر، إذ إن لوبي إسرائيل، حسب الناشط الإيراني، سيفرد اهتمامه لنسف الاتفاقية النهائية التي يجري التفاوض عليها بين إيران والعالم. طبعا لا يذكر بارسي أنه مؤلف كتاب يمتدح فيه إسرائيل، ويقول إنه لا عداء إيرانيا معها، وإن مصلحة أميركا تتمثل في دخول بتحالف مثلث الأضلاع، يجمع كلا من أميركا وإسرائيل وإيران. لكن يبدو أنه بعدما تأكدت طهران من أن إسرائيل لن تسمح لها بحيازة سلاح نووي، قررت الانقلاب من محاولة مصادقة الإسرائيليين إلى مواجهتهم، خصوصا في عاصمة القرار العالمي واشنطن. وحسب المواجهات القليلة الماضية، يبدو أن بارسي محق في أن لوبي إسرائيل ليس معصوما عن الخسارة، وأنه يمكن للوبي فتي - كمثل اللوبي الإيراني الذي أسسه بارسي ويقوده في واشنطن منذ نحو عقد - أن يلحق هزيمة بالإسرائيليين، وذلك بالتحالف مع تيارات داخلية أخرى، وفهم الصورة الأميركية بشكل دقيق ومتابعتها، وهو نشاط إيراني يبدو أنه قارب أن يثمر، خصوصا مع ترديد الرئيس الأميركي أن التغيير آتٍ، وأن واشنطن في طريق حتمي إلى مصالحة وصداقة مع طهران، وأن على حلفاء أميركا في المنطقة التكيف مع التغيير.

حزب التحرير الإسلامي.. 62 سنة من الخلافات و«التشرد» الفكري والسياسي حزب التحرير الإسلامي.. 62 سنة من الخلافات و«التشرد» الفكري والسياسي

$
0
0
فوجئ المواطنون الأردنيون في عمان الشرقية بمهرجان كبير في جبل نزال يوم 23 مارس (آذار) الماضي، حين ارتفعت مكبرات الصوت تذكر المسلمين بالذكرى التاسعة والتسعين لسقوط الخلافة الإسلامية، وتحثهم على العمل لإعادة بناء الدولة الإسلامية مرة ثانية. ومنظمو المهرجان كانوا مجموعة من أعضاء «حزب التحرير الإسلامي» الذي يعد نفسه التعبير الفلسطيني عن طلائع تنظيمات الإسلام السياسي في القرن العشرين. إذ كانت الساحة الحزبية في القدس خاضعة لنفوذ أحزاب كثيرة تتمركز قياداتها في سوريا، كحزب البعث العربي الاشتراكي، أو في القاهرة كجماعة الإخوان المسلمين، أو في موسكو كالحزب الشيوعي، أو في لبنان كالحزب القومي السوري الاجتماعي. في الخمسينات من القرن الماضي، كان «الإخوان المسلمون» مسيطرين سيطرة كاملة على الساحتين السياسية والفكرية في الأردن، بضفتيه الشرقية والغربية. وشعر البعثيون والشيوعيون، أنه لم يعد لهم بقاء في الأردن، بسبب استقطاب حركة الإخوان المسلمين لجميع العناصر المسلمة الكفؤة في ذلك المجتمع المحافظ، ومنهم اثنان ترأسا وزارتين فيما بعد، و74 أصبحوا وزراء. وعندما بدأ حزب التحرير دعوته، حاول الإخوان عبثا استمالة الشيخ تقي الدين النبهاني، فانقسمت الساحة الإسلامية وتراجع المد الإسلامي، وتنفس الكثيرون الصعداء. أنشأت جماعة من الموظفين المتدينين «حزب التحرير» في القدس، بعد انشقاقها عن الإخوان المسلمين. وقد بدأ المبادرة بالانشقاق، في بداية عام 1952، العالم الأزهري القاضي الشيخ تقي الدين النبهاني، وهو من رجال الحاج أمين الحسيني. وانضم إلى الشيخ النبهاني، عندما كان مدرسا في مدرسة ثانوية، ثلاثة من زملائه في الخليل، وهم: الشيخ أسعد بيوض التميمي، والشيخ رجب بيوض التميمي، وعبد القديم زلوم. وعقدت المجموعة لقاءات عدة، غالبا في القدس والخليل، لتبادل الآراء وتجنيد أعضاء جدد. وجرى التركيز في الأشهر القليلة الأولى، على النقاشات الدينية، لكن المجموعة بدأت باتخاذ طابع حزب سياسي في نهاية عام 1952. قدم الأعضاء الخمسة للمجموعة (وهم: تقي الدين النبهاني، داود حمدان، منير شقير، عادل النابلسي، غانم عبده)، طلبا رسميا إلى وزارة الداخلية الأردنية، للسماح بتشكيل حزب سياسي في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1952. وقد رُفض الطلب. وكانت أسباب الرفض التي أعلنتها وزارة الداخلية، بناء على البرنامج المقترح للحزب وليس على تشكيل عضويته. وقد أبلغ أصحاب الطلب، أن معتقدات البرنامج المقترح لا تتعارض فقط مع روح الدستور الأردني، بل مع بنوده. وقد تم الإيضاح، على سبيل المثال، أن المشروع المقترح لا يقبل مبدأ الحكم الوراثي، كما هو منصوص عليه في الدستور الأردني، وبدلا من ذلك، دعا البرنامج إلى انتخاب حاكم. ولم يعترف البرنامج بالإضافة إلى ذلك، بالقومية على أنها النمط السائد كأساس للدولة، بل بالدين الإسلامي. بعبارة أخرى، فإن البرنامج المقترح كان تحديا لشرعية النظام الأردني. تركز نشاط المجموعة (الذين دعاهم الناس «النبهانيون» - نسبة إلى مؤسسها - في حين أن اسم حزب التحرير استعمل بشكل أقل)، في السنة الأولى عامة في القدس، الخليل، ونابلس، وفي مخيمات اللاجئين حول أريحا. حاول الحزب الدعوة لتعاليمه بعد صلاة الجمعة. كما حاول الشيخ النبهاني، بعد حصوله على مساعدات مالية كبيرة من لبنان، تشكيل مجموعات عدة تضم كل منها عشرة أعضاء، إلا أن هذه التجربة فشلت باستثناء مجموعة واحدة في القدس. وسرعان ما تبين خطأ الرأي الذي دعا إليه داود حمدان، حول حاجة الحزب إلى ثلاثة أشهر، فقط، ليكون مستعدا لإسقاط النظام. وقد أعلن حمدان في أحد الاجتماعات المغلقة، أن الإعداد سوف يحتاج إلى وقت أطول مما توقع في الأصل. وأن هناك حاجة ماسة لأعضاء جدد قبل محاولة القيام بالانتفاضة. وبناء على ذلك، قاموا بجهود لزيادة أتباع الحزب، بالتسلل إلى المناطق الريفية والتركيز على المدرسين في القرى. وجرت محاولات عدة من قبل التنظيم في القرى الغربية لنابلس، وتم تأسيس فروع جديدة، وكان أكثرها نجاحا في عزون. وتتابعت جهود الحزب الرئيسة في التوجه إلى المراكز البعيدة عن المدن. كانت الأهداف الرئيسة في نابلس وفي طولكرم وقلقيلية. وأسست بعض الفروع الأقل أهمية في جنين ورام الله والبيرة خلال عام 1954. منحت الانتخابات العامة لذلك العام، الفرصة للحزب لنشر آرائه بين العامة بحرية. ورشح الشيخ أحمد الداعور نفسه للبرلمان، وقام بحملات انتخابية عدة، وأجرى لقاءات في نابلس. أدت عضوية الشيخ الداعور بالبرلمان إلى تصاعد ثقة الحزب بنفسه، وقد أصبح مستعدا للتعبير عن آرائه علانية في ذلك الوقت، خاصة في المساجد. وكان هذا صحيحا خاصة خلال شهر رمضان، حيث تصبح الحماسة الدينية على أشدها عند الناس، كما هي العادة. لم ينجح الشيخ تقي الدين النبهاني في الوصول إلى البرلمان عام 1951، كما خسر أمام مرشح البعث عبد الله نعواس، الذي حصل على 5000 صوت مقابل 2300 صوت للشيخ النبهاني. ناضل الحزب بعد عامين، أي في عامي 1954 و1956، ورشح أعضاء الحزب أنفسهم بشكل مستقل، في انتخابات 1956، (وقد كانت ولاءاتهم السياسية واضحة للجميع) والمرشحون هم: داود حمدان (القدس)، عبد القديم زلوم (الخليل)، أسعد بيوض التميمي (الخليل)، عبد الغفار الخطيب (الخليل)، أحمد الداعور (طولكرم)، ومحمد موسى عبد الهادي (جنين). لم ينجح من هؤلاء إلا أحمد الداعور عن (طولكرم) الذي تعاون مع الإخوان المسلمين، وقام بحملات حيوية في القرى ومخيمات اللاجئين في المنطقة. ولولا تعاونه مع الإخوان المسلمين في تلك المنطقة، ولولا تنظيمهم لحملته كي لا ينجح عن طولكرم شيوعي أو بعثي، لما نجح أحمد الداعور في البرلمان. ناضل مرشحو الحزب الآخرون، في جنين ونابلس، بقوة أثناء الانتخابات، لكن نشاطاتهم الدعائية توقفت تماما عقب هزيمتهم في الاقتراع. وقد أبعدت المهام البرلمانية أحمد الداعور عن مجاله في النشاط المحلي في طولكرم وقلقيلية، بعد انتخابه عضوا في البرلمان في عمان. كما أبقى الحزب على نشاطاته حية في نابلس، بدعوة أعضاء بارزين من القدس والخليل لإلقاء الخطب في المساجد، ولتنظيم مجموعات دراسية صغيرة. لم تكن نشاطات الحزب بارزة خلال العقد الذي تلا تلك الفترة، لأسباب عدة. فقد قلل قانون الوعظ والإرشاد لعام 1950، من استغلال الحزب للمسجد للدعاية السياسية. كما خفف من فعالية الحزب بشكل عام. كما أضعفت الخلافات الداخلية الحزب في أواسط الخمسينات عندما اختلف الشيخ تقي الدين، الذي انتقل إلى بيروت، مع الكثير من الدعاة التحريريين في الضفة الغربية. وقد أدى ذلك إلى استقالة الكثير من الأعضاء في نابلس عام 1956، وتقليص الحزب في تلك المنطقة إلى فرع واحد في قلقيلية. كما طرد الشيخ تقي الدين عددا من القادة الذين اختلفوا معه بعد سنتين من ذلك. وبعد ذلك، أصدرت السلطات الأردنية أمرا بترحيل العديد من أكثر الأعضاء بروزا في منتصف عام 1956، ما أدى إلى وقف مؤقت لنشاطات الحزب في القدس. * آيديولوجية الحزب * يعتقد حزب التحرير ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، وتوحيد جميع المسلمين تحت رايتها، وذلك من خلال اتباع المنهج النبوي في نشر الدعوة سلميا، كما حصل في مكة المكرمة. ثم خلق الوعي السياسي لدى طبقات الشعب. ثم «طلب النصرة» من قادة الجيش وأصحاب القرار والمتنفذين في الإدارة الحكومية، لإقامة شرع الله والحكم بكتابه. وقد أوضح الشيخ تقي الدين النبهاني تفاصيل منهجية الحكم في كتبه الكثيرة، ومنها «نظام الحكم في الإسلام» «النظام الاقتصادي في الإسلام» و«النظام الاجتماعي في الإسلام» وكتاب «الشخصية الإسلامية» وكتاب «الدولة الإسلامية» وكتاب «الخلافة» وكتاب «إنقاذ فلسطين» وكتاب «كيف هدمت الخلافة» وكتاب «الفكر الإسلامي». وقدّر بعض المخططين في الحزب، أن المرحلة التالية قد تستغرق خمس عشرة سنة، بينما أشار آخرون بالصبر ورفضوا تحديد موعد زمني. اتفق الجميع على أنه ليس من الضروري اللجوء للعنف الجسدي لتحقيق الهدف النهائي، حيث يمكن الوصول إلى الدولة بالسيطرة عليها من داخلها. لهذا كان هناك تأكيد كبير على النشاط السري المكثف، ولم يتوقعوا حدوث نجاح سريع ودراماتيكي. وباستثناء حادثة أو حادثتين، فإن حزب التحرير لم يدع إلى العنف سواء على شكل مظاهرات أو نشاطات أكثر جدية من ذلك. لم يتخل الحزب أبدا عن هدفه في السيطرة على الحكومة، لكنهم أجلوه إلى ما لا نهاية. والتوصل إلى ذلك يجب أن يكون بطيئا ومنتظما، وذلك بتوصلهم إلى المراكز الحساسة في المجتمع، وإعداد الجمهور ليكون مستعدا لنوع النظام الذي يتوق إليه الحزب، ثم الاشتراك في الحياة البرلمانية. تهاجم كتابات حزب التحرير، غالبا، الاستعمار الغربي بمرارة. وتمثل الإمبريالية الغربية، بالنسبة للحزب، النمط النموذجي للعدو الرئيس، حيث تظهر أيديها الماكرة خلف الكثير من الأحداث السياسية في العالم العربي، ولا يوجد أي نظام عربي لم يتسرب إليه أعوان وعملاء الغرب، وفقا لأدبيات الحزب. ولا ينظر حزب التحرير إلى الإمبريالية على أنها قوة مفردة متراصة ومتناغمة، بل يرى منافسة مستمرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين تتنافسان على التأثير والسيطرة في العالم العربي. وينظر حزب التحرير إلى موسكو نظرة عداء أيضا، وغالبا ما اتهمها باستغلال العرب في صراعاتها مع الغرب، إلا أن درجة النقد الموجه إلى موسكو، أقل بكثير من غيره. ويرى حزب التحرير أيضا، أن وجود شيوعيين هو سبب كاف للنظر إليهم باحتقار، إلا أن السبب في الموقف المعتدل نسبيا ضدهم، يكمن في «افتقارهم إلى الوجود» في الشرق الأوسط، ولهذا فإن خطرهم أقل حدة من خطر الغرب. وأن ثمة مؤامرة تثيرها الولايات المتحدة (وغالبا بدعم فعال من أصدقائها لطرد البريطانيين)، بينما يحاول الغرب، عموما، إغراء الدول العربية للدخول في تحالف عسكري واقتصادي معه، من أجل تحقيق أهدافه في الشرق الأوسط. ويصور حزب التحرير بصراحة، المعاهدات العسكرية كمحاولات صريحة لإخضاع دول الشرق الأوسط شبه المستقلة. وتصور مشاريع المساعدات الاقتصادية، كشكل ذكي للإمبريالية يهدف إلى السيطرة السياسية من خلال التدخل المالي. وينظرون إلى جميع هذه التحالفات، على أنها جوانب لاستراتيجية واحدة مسيطرة تحاول احتواء الأقطار الإسلامية في الصراع من أجل سيطرة الإمبرياليين الكفار. ويعرض الحزب، في أدبياته، لهذه المحاولات الواضحة المخربة والسامة، ويحاول إعطاء ضحاياها تحذيرا مفصلا وخاصا. ويصور حزب التحرير القوى الاستعمارية، على أنها المتهم الرئيس في تدهور وضع الإسلام. ولا ينظر حزب التحرير إلى وجود دوافع عقائدية شريرة خلف هذه المؤامرة، بل اعتبارات واقعية، مثل السيطرة على المصادر الطبيعية، والاستراتيجية العسكرية.. الخ. كان الاعتماد الاقتصادي على الغرب، والتقسيم السياسي للعالم الإسلامي إلى عشرات الدول منفصلة عن بعضها، هو الثمرة المباشرة للأزمة الدينية والعقائدية لهذا العالم، فكانت الوسيلة لإنعاش العالم الإسلامي هي التحرر الكامل من سيطرة الغرب الثقافية والاقتصادية والسياسية. إلا أن الهدف الأسمى يجب أن يكون خلق دولة إسلامية واحدة، يتحتم عليها السيطرة على جميع الشؤون الداخلية لحياة السكان وفقا لتعاليم الإسلام. أما في الشؤون الخارجية، فتباشر العمل لحرب مقدسة في جهد متآلف لعرض الإسلام على كل العالم غير المسلم. ويجب الاحتفاظ بالتكنولوجيا الغربية فقط في دولة المستقبل هذه، والهدف من ذلك بشكل خاص تطوير الصناعات الحربية الشاملة. رمى حزب التحرير من وراء هذا الهدف المقترح، إلى تحويل العالم كله إلى الإسلام، ويمكن الوصول إلى هذا الهدف من خلال العمل على ثلاثة مستويات متتابعة وهي: الوعي الفردي، «المجموعة المختارة»، الدولة المثالية. وليست المرحلة النهائية في توحيد جميع الشعوب الإسلامية في دولة كلية السيادة، مجرد حلم ورؤيا. فقد ولد الجنين في الدول العربية. ولهذا يجب توجيه أبلغ الاهتمام إليها. وعلى المرء أن يتجنب أي إشارة إلى وجود شعوب عربية مختلفة مثل «الشعب الأردني»، أو «الشعب الفلسطيني»، فكلها تشملها هوية واحدة هي الإسلام. ولم يكن مفهوم القومية العربية إلا من خلق الإمبريالية وتجديدا يناقض روح الإسلام (اعتبر حزب التحرير العبارة المألوفة تماما «الدول الشقيقة» معادية لعقائد حزب التحرير). لا يمكن قبول إلا الرابطة الإسلامية الموحدة. لم تحظ الدول الأخرى في العالم الإسلامي، إلا بانتباه ضئيل في الواقع العملي. ولم يكن تركيز الحزب السياسي على العالم العربي ككل، بل على مشكلة فلسطين. فلم تكن فلسطين بلدا إسلاميا عاديا، بل إنها تحتل أهمية خاصة في الإسلام. واعتبر حزب التحرير مجرد وجود حكم أجنبي (وبشكل خاص في القدس) هو بمثابة إهانة. ولن يكون هناك حل عادل إلا بالحرب المقدسة. أما إعادة توطين اللاجئين في مكان آخر، أو إرجاعهم إلى أوطانهم تحت الحكم الإسرائيلي، فيجب ألا يُشجع. ولم يدعم «التحريريون» انبثاق «كيان فلسطيني»، بل أظهروا، على عكس الآخرين، معارضة شديدة ومستمرة، حتى إنهم لم يترددوا في انتقاد منظمة التحرير الفلسطينية بشكل صريح، بسبب دعمها لمبدأ دولة فلسطينية منفصلة. ولم يكن خلق دولة فلسطينية منفصلة يعارض أكثر معتقدات الحزب جوهرية بوحدة إسلامية كاملة، بل إن هذا قد يضع حدا لمشكلة فلسطين. وليس هذا إلا هدف الاستعمار الغربي، وإسرائيل، وبعض القادة العرب الذين يودون التخلص من كل الوضع المتأزم. لهذا يرى حزب التحرير «إن إنشاء كيان فلسطيني ودولة في الضفة الغربية جريمة كبيرة ومحرم تحريما قاطعا». كان حزب التحرير هو الحزب الوحيد في العالم العربي الذي عارض باستمرار منظمة التحرير الفلسطينية، والمنظمات الأخرى التي تشارك منظمة التحرير أهدافها. ومن الممتع رفض حزب التحرير تطويع مبادئه لتحمّل الاتجاه السائد، حول التساؤل المتعلق بكيان فلسطيني مستقل. وهو التساؤل الذي كان سيصبح مسيطرا على التفكير السياسي لأبناء الشعب الفلسطيني. قاوم الحزب بشدة وباستمرار أي محاولة للهبوط بالمشكلة الفلسطينية إلى مستوى مشكلة لاجئين. كما رفض وبالإصرار نفسه، أن تكون فلسطين مجرد قضية قومية على وجه التخصيص، لا يستحق أي شيء عناية جادة ما لم يؤدّ إلى إعادة تشكيل العالم الإسلامي في دولة موحدة واحدة. استقطب حزب التحرير عداء المثقفين العرب في رفضه لفكرة الديمقراطية التي اعتبرها نوعا من الكفر، ويخرج من ملة الإسلام من يؤمن بها، أو يمارسها، لأنها بدعة أوروبية تبتعد عن فكر القرآن الكريم القادر على تنظيم الحياة العصرية بصورة شاملة، ضمن الإطار الإسلامي، وهو الخلافة الراشدة القادرة «عند إقامتها»، على حل مشكلات الشعوب الإسلامية قاطبة. ويهاجم حزب التحرير في أدبياته النظام الرأسمالي الغربي، ويعتبره سببا في إعادة استعباد الشعوب وشقائها. كما اعتبر النظام الاقتصادي الشيوعي بالدرجة نفسها من الفشل في تحقيق الرفاه والسعادة للإنسان. كما لم تستطع الاشتراكية العربية إقناع منظري الحزب بجدواها، إذ اعتبروها كالرأسمالية والشيوعية، من أسباب بؤس الإنسان المعاصر. وبسبب موقف الحزب المعادي للقومية العربية وتكفيره لمن ينادي بها، فقد جرى إعدام الشيخ عبد العزيز البدري، من قادة الحزب في العراق، في ثمانينات القرن الماضي، كما لم يعرف أحد مصير وفد الحزب إلى ليبيا بعد لقائه الرئيس معمر القذافي لطلب «النصرة». لقد تعاقب على رئاسة الحزب ثلاثة حتى الآن، يحمل كل منهم لقب أمير: المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني، والشيخ عبد القديم زلوم، والمهندس عطا أبو الرشتا، الأمير الحالي. وقد مارسوا جميعا القبضة الفولاذية ضد الأجيال الجديدة التي رفضت تشدد القيادة، وعدم تكيفها مع مقتضيات العصر الحديث، وعدم مرونتها في تفسير النصوص التراثية. ونتيجة لذلك، فقد جرى فصل السوري الشيخ عمر بكري محمد، من «ولاية» بريطانيا عام 1996، فأسس جماعة «المهاجرون» التي تضم في عضويتها بضعة آلاف من الشباب المقيم في المملكة المتحدة، قبل أن ينتقل الشيخ ويستقر في لبنان. كما تأسست عام 1997، جماعة الإصلاح، من أعضاء الحزب الذين رفضوا التزمت والجمود، وعدم التدرج في الوصول إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية. وكان نصيبهم الفصل أيضا، ويحملون اسم «الناكثون»، كنوع من الازدراء بهم. وقام جماعة من شباب الحزب المتعلم، المثقف، بتأسيس تنظيم حزبي تقدمي جديد ليلم شملهم في الولايات المتحدة، سموه «حزب التحرير - أميركا». وقد أدت استراتيجية الحزب في استخدام أسلوب الإقناع والاستدلال بالحجج القرآنية، إلى انتشاره الواسع في إندونيسيا وماليزيا، على أيدي الطلبة الخريجين من الجامعات البريطانية، ممن تأثروا بأفكار الحزب. كما ذكرت الأنباء الصحافية، أن سجون أوزبكستان، تضم أكثر من ألف من أعضاء حزب التحرير المحظور هناك. وعلى الرغم من تركيز أدبيات الحزب على إقامة دولة الخلافة الإسلامية من خلال المراحل السلمية الثلاث، وهي مرحلة إعداد الأفراد فكريا وعقائديا، ومرحلة التفاعل مع المجتمع بخلق وعي عام شامل كامل يؤمن بضرورة التغيير وحتمية الانتصار، ومرحلة تعقب ذلك بطلب النصرة من أصحاب القرار الذين انخرطوا في «الحلقات» السرية للحزب. فإن ممارسات الحزب العملية، أوضحت أنهم حاولوا القيام بانقلاب في الأردن، في ستينات القرن الماضي، وفي تونس، في السبعينات، وفشلوا. كما خططوا لانقلاب مماثل فاشل في القاهرة، فيما عُرف باسم «الكلية الفنية العسكرية» في أبريل (نيسان) 1974 وأُعدم نتيجته الدكتور صالح عبد الله سرية، وهو من قرية «اجزم» الفلسطينية نفسها التي ينتمي إليها الشيخ النبهاني، والتي تعرضت نساؤها عام 1948، إلى مجازر وانتهاكات شبيهة بمذابح دير ياسين. وقد ذاق أعضاء الحزب في ليبيا والعراق، من صنوف التعذيب والتنكيل والإعدام، ما لم يمر به أي تنظيم حزبي آخر. لقد تشظى حزب التحرير حاليا إلى ست مجموعات، بسبب فقدانه المرونة السياسية، وعدم أخذه بأحكام التدرج في الوصول إلى الغايات، وعدم تكيفه مع مقتضيات العصر الحديث. ويوجد الآن في فلسطين والأردن، «الناكثون» بزعامة «الشيخ أبو رامي». ويوجد المهاجرون في سوريا ولبنان. ويوجد حزبان في بريطانيا، يحمل كل منهما اسم حزب التحرير. كما يوجد في الولايات المتحدة «حزب التحرير - أميركا». وتوجد المجموعة السادسة في شرق آسيا وماليزيا وإندونيسيا. وتأخذ هذه المجموعات الست على قيادة الحزب عدم تأقلمها مع المتغيرات العالمية أو استيعاب متطلبات القرن الحادي والعشرين وفهمها. * كاتب من الاردن
Viewing all 44 articles
Browse latest View live